الثلاثاء، ديسمبر 17، 2013

إن الاقتباس الشهير لآينشتاين لم يعني ما تعلمته من قبل ..

فهو في الواقع لا يوفر أي عزاء للمؤمنين.


كان ألبرت آينشتاين من أشهر العلماء في عصرنا الحالي، ونظرا لذكائه الشديد، فإن آراءه حول الموضوعات غير العلمية كثيرا ما تعد فوق مستوى الجدل. وأحد أشهرها هو تصريحه الذي كثيرا ما يقتبسه المتدينون ومدّعو التوافق بين الإيمان والعلم. وهو يعود لمقال آينشتاين "العلم والدين،" المنشور عام 1954.
"العلم من دون الدين أعرج، والدين من دون العلم أعمى."
يستخدم هذا الاقتباس بوفرة لإثبات تدين آينشتاين وكذلك إيمانه بالتوافق—بل والتكامل المشترك—بين العلم والدين. ولكنه نادرا ما يذكر ضمن سياقه، وحين ترى السياق ستكتشف أن هذا الاقتباس يفترض أن لا يوفر أي سلوان للمؤمنين. ولكن دعني في البداية أثبت كيف أن آينشتاين، في نفس المقال، يقترح ما يعدّ جوهريا نفس صياغة ستيفن جاي غولد عن NOMA (الاختصاصات غير المتداخلة). لقد كانت فكرة غولد (التي من الواضح أنها ليست أصيلة) أن الدين والعلم متناغمان، نظرا لأنهما يمتلكان مهمتين مستقلتين إنما مكمّلتين لبعضهما: فالعلم يساعدنا على فهم التركيب المادي للكون، في حين يتعامل الدين مع القيم، الأخلاق، والمعاني الإنسانية. هذه هي صياغة  آينشتاين (مع توكيدي) :
لن يكون من الصعب أن نصل إلى اتفاق حول ما نفهمه من خلال العلم. فالعلم هو السعي عبر القرون لتجميع الظواهر المدركة لهذا العلم عن طريق التفكير النظامي في ترابطات هي أعمق ما يكون. أو بصياغة جريئة: هو إعادة بناء بَعدية a posteriori للوجود من خلال عملية التصور.
… وبالمثل، فالشخص المتدين يتصف بالتقوى، بمعنى أنه لا شك لديه في أهمية ورفعة هذه الأشياء والأهداف فوق الشخصية التي لا تتطلب أو تقدر على التأسيس العقلاني. فهي موجودة بنفس مستوى الضرورية والواقعية الذي لوجوده شخصيا. وبهذا المعنى، فالدين هو السعي الإنساني عبر العصور لأن نكون واعين بوضوح وكلية لتلك القيم والأهداف، ولأن نقرّبها ونوسّع تأثيرها بكل ثبات. لو أن المرء تصور العلم والدين وفقا لهذه التعريفات فإن الصراع بينهما يبدو مستحيلا، ذلك أن العلم يستطيع فقط التأكد مما يكون، وليس مما يجب أن يكون، وخارج هذا المجال فإن الأحكام القيمية من كل الأنواع تبدو ضرورية. أما الدين، من جهة اخرى، فيتعامل فقط مع تقييمات الفكر والفعل البشري: ولا يمكنه أن يتحدث بشكل مبرر عن الحقائق والعلاقات فيما بينها. ووفقا لهذا التفسير فإن الصراعات المعروفة بين الدين والعلم يجب أن تنسب جميعا إلى سوء فهم للحال التي وصفت توا.
على سبيل المثال، فإن الصراع يتصاعد حين تصر جماعة دينية على الحقانية المطلقة لكل العبارات المدونة في كتابها المقدس. مما يعني تدخلا من جانب الدين في فضاء العلم، وإليه ينتمي نضال الكنيسة ضد اعتقادات غاليليو وداروين. ومن جهة أخرى، فكثيرا ما حاول ممثلو العلم التوصل إلى أحكام أساسية فيما يخص القيم والأهداف على أساس المنهج العلمي، جاعلين أنفسهم بهذا في مواجهة الدين. وكل تلك الصراعات إنما نبعت من أخطاء قاتلة.
رغم هذا التقارب اللصيق مع آراء غولد في كتابه الصادر عام 1999 صخور الأزمنة، فإن غولد لا يذكر  آينشتاين ولا هذه الفقرة من كلامه. ولكن كلا الرجلين كانا مضللين في اقتراحهما أن هذا التكتيك سينجح في المواءمة بين الدين والعلم.

لماذا؟ أحد الأسباب هو أنهما قد تضمنا الأهداف والقيم البشرية بكل ثقة في اختصاص الدين، مهملين بالكامل عشرين قرنا من الأخلاقيات العلمانية ابتداءً من قدماء الإغريق. والدين ليس بالتأكيد مصدرا وحيدا، بل ليس مصدرا جيدا أصلا، لكيفية التصرف أو البحث عن المعنى في حياتنا. كما يخطئ   آينشتاين حين يزعم أن الدين يتعامل "فقط مع تقييمات الفكر والفعل البشري"، إذ يتجاهل حقيقة ملموسة هي أن العديد من الأديان تهتم أيضا بـ عبارات الحقيقة—كالعبارات حول وجود الله، أي نوع من الآلهة هو، ما الذي يريد منا فعله، إضافة إلى كيف وصلنا إلى هنا وإلى أين نذهب حين نموت. وبالفعل، فإن آينشتاين في الفقرة الثالثة يلاحظ أن للدين فعلا صلة بعبارات الحقيقة، وبالتالي ففي تعريفه خلل واضح.

لقد التف غولد حول هذا الالتباس ببساطة عبر ادعاء أن الأديان التي تطلق عبارات الحقيقة—متجاوزة بذلك على فضاء العلم—لم تكن أديانا سليمة. ولكن حيلة كهذه بالطبع تتخلى عن معظم المؤمنين في العالم، لأن معظم الأديان، بما فيها الإبراهيمية، تطلق ادعاءات حول كيفية تنظيم الكون. ولن ينفع أن يتم تعريف الدين بطريقة تستثني جمهرة المؤمنين.

وهكذا فإن لدي إشكالا مع توفيقية آينشتاين (وغولد). فالرجل كان فيزيائيا عظيما، لكنه لم يكن معصوما، ومما يدهشني أن أرى الناس يقتبسون أطروحاته غير العلمية كما لو كانت عصية على الدحض. فالخبير في الفيزياء ليس بالضرورة حجة في الفلسفة.

أما بالنسبة للاقتباس الشهير أعلاه، فإليك به ضمن السياق (مع توكيدي):
رغم أن الدين ربما يكون ما يحدد الهدف، فقد تعلّم مع ذلك من العلم، بمعناه الأرحب، أيّ وسيلة ستساهم في التوصل للأهداف التي قررها. ولكن العلم لا يمكن أن يخلقه إلا المفعمون بحقٍّ بالطموح نحو الحقيقة والفهم. ولكن مصدر الشعور هذا إنما ينبع من فضاء الدين، وإليه أيضا ينتمي الإيمان باحتمال أن تكون التنظيمات الصحيحة في عالم الوجود عقلانية، أي مقبولة لدى العقل. لا يمكنني التفكير في أي عالم أصيل يخلو من ذلك الإيمان العميق. ويمكن لهذه الحالة أن يعبّر عنها بصورة: العلم من دون الدين أعرج، والدين من دون العلم أعمى.
لا خلاف عندي مع هذه المساهمة المفترضة للعلم في الدين: مساعدته على اختيار طرق لتحقيق أهداف المرء. ولكن آينشتاين يهمل مساهمة أخرى للعلم في الدين: تفنيد عباراته عن الحقيقة. وأي دور كان لداروين في ذلك!

ولكن آينشتاين يخطئ من جديد عبر ادعاء أن "الطموح نحو الحقيقة والفهم … ينبع من فضاء الدين". فلعله يتصور "الدين" هنا كشكل من الفضول العميق حول الكون الذي يتجاوز الفرد. لكنه بالتأكيد لا يرى الدين كما يفهمه معظم الناس. لماذا لم يقل فقط أن لدى بعض الناس فضولا لا يشبع نحو اكتشاف الأشياء؟ لماذا كان عليه أن يعد ذلك الفضول شكلا من "الدين"؟ إن هذه التسوية هي ما يتسبب في تشويش مستمر حول اعتقادات آينشتاين. فهل كان شديد التوق لمجاملة المؤمنين إلى درجة إعادة تعريف "الدين" كدهشة غير مؤمنة؟ أو هل كان حقا مؤمنا بوحدة الوجود، يعبد الطبيعة بوصفها الإله؟ ليس الأمر واضحا.

ولكن الواضح من كتابات آينشتاين حول الدين والعلم، هو أنه لم يكن يعتقد بإله شخصي، وكان يرى الدين المؤلِّه خيالا من صنع البشر. ففي رسالة كتبها عام 1954، لم يدع مجالا للتردد (مترجما عن الألمانية الأصلية):
إن كلمة "الله" ليست بالنسبة لي أكثر من تعبير ونتاج للضعف البشري، والكتاب المقدس ليس سوى تجميع من الأساطير المعتبرة، إنما البدائية الخالصة، وهي مع ذلك طفولية جدا. ما من تفسير، مهما كان دقيقا، سيغير ذلك في نظري.
وبالفعل، فإن الفقرة الأخيرة من مقاله المنشور عام 1954 تثبت أن إيمانه ليس في اللاملموس، بل في العقلانية:
كلما أبعد التطور الروحي للإنسانية في التقدم، ازداد في نظري اليقين بأن الطريق إلى التدين الخالص لا يكمن في الخوف من الحياة، والخوف من الموت، والإيمان الأعمى، بل في السعي خلف المعرفة العقلانية. وبهذا المعنى فأنا أعتقد أن على الكاهن أن يصبح معلّما لو شاء الإنصاف في مهمته التربوية الرفيعة.
ختاما، فأنا أعترض على عبارة آينشتاين حول أن قيمة العقل في فهم العالم هي شكل من "الإيمان العميق". فكما كتبت في مجلة Slate، فإن ذلك يبعث على التشوش لأن المعنى الديني للإيمان هو "اعتقاد ديني راسخ دون أدلة مؤسسة"، في حين أن إيمان العالم بقوانين الفيزياء هو ببساطة مختصر لـ "الثقة الشديدة، بناءً على أدلة وتجارب مكررة، حول ماهية الأشياء". إضافة لذلك، فنحن لا نؤمن بالعقل: بل نستخدم العقل لأنه يساعدنا في اكتشاف الأشياء. وهو في الواقع الوسيلة الوحيدة التي حققنا عبرها أي تقدم في فهم الكون. ولو ثبت أن لطرق أخرى أي قيمة تذكر، كالكشف الشخصي أو ألواح ويجا، لكنا سنستخدمها أيضا.

رغم أن آينشتاين لم يؤمن بالإله المتعارف، فإن تفسيره للتوافق بين الدين والعلم قد أسيء فهمه على نطاق واسع، وبعض ذلك يعود لخطأه هو. فما كان يجب أن يقوم به هو التخلي عن كلمة "الإيمان" لصالح "الثقة النابعة من الخبرة" ثم لا يحاول ادعاء أن الفضول والدهشة تجاه الطبيعة هي أحد أشكال الدين. إن ذلك التشويش (أو ربما عدم دقة التعبير) هو ما قاد إلى سجال مطول وإساءة تمثيل لما كان آينشتاين يعتقد به حول الإله والدين.

دعني إذن أعيد صياغة عبارة آينشتاين الشهيرة في هيئة أظن أنه كان يقصدها:
العلم دون فضول عميق لن يذهب لأي مكان، والدين من دون العلم تلحقه إعاقة مزدوجة.
إعاقة مزدوجة، بالطبع، لأن الأديان المؤلّهة تستند إلى كائن فوق طبيعي لكنه خيالي، وتتعقد إعاقتها حين ترفض نتائج العلم. في النهاية، فإن اقتباس آينشتاين الشهير يجب أن لا يوفر أي عزاء—أو عتاد—للمؤلهين: لأن آينشتاين لم يرى "الدين" بوصفه ألوهيا. ولكني أتمنى لو كان قد كتب بوضوح أكثر قليلا، فكّر بوضوح أكثر قليلا، أو ربما تجنب بالكامل مناقشة العلاقة بين العلم والدين. فهو في هذا الموضوع أقل تماسكا من العديد من الفلاسفة، بل والعديد من العلماء. لقد كان آينشتاين، لكنه لم يكن إلها.

المقال الأصلي:http://www.newrepublic.com/node/115821

هناك 3 تعليقات:

  1. من الطريف أنه رغم هذا الكم الكبير من البراهين فإنك تجد دائما من يشكك في الموضوع، وأنا أقول بأن المسألة لا تحتمل إلا أمران: الخطأ أو الصواب، فعندما أتكلم عن الوصف المجهري لمراحل خلق الجنين أو توسع الكون أو جريان الشمس أو غيرها من المواضيع فإما أن القرآن ذكرها وسجل سبقه التاريخي فيها قبل العلوم الحديثة واضحة وبدون تأويل للنص أو أنه لم يذكرها.. فالشمس تجري أو لا تجري والسماء تتوسع أو لا تتوسع وهكذا.. فمما لا شك فيه أن العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام لم تكن لهم معرفة علمية جازمة بالعلوم الكونية، فقد كانوا أمة أميين، ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُم) [س الجمعة: من الآية 2]، لا يكتبون ولا يحسبون ومن شدا منهم شيئًا من ذلك فإنما كان يعرف مبادئا أو قشورا، عرفها بالملاحظة والتتبع، أو بالسماع والخبر، ولم تبن معارفهم على ملاحظات مجهرية ولا على قواعد رياضية، ولا على براهين قطعية..فالمعطيات العلمية في القرآن الكريم تبين أن مصدره إلهي لأن المعطيات العلمية التي يحتويها لم يتم التوصل إليه إلا في القرون الأخيرة ..فكلامك عن إله خيالي، كلام أصبح خرافيا وغير أكادمي وخذ كمثال مدرسة Intelligent Design ..إن العلم بدون دين هو الذي خرب حاضر البشرية ويهدد وجودها فوق الأرض.

    ردحذف
  2. بعيدا عن التأويل البعيد لكلام أنشتاين أريد أن أقول:
    كما أن الدين أسيئ فهمه واستخدامه ونشب بسبب ذلك الفهم المعكوس والاستخدام السيئ حروب ومعارك وسفكت دماء واحتلت بلاد، فكذلك العلم كان ولا يزال بسبب سوء استخدامه سبَّبَ ويسبِّبُ الدمار، بل إن مصير الإنسان الذي هو العملة النادرة في الوجود مهدد بالابادة ومعه إبادة جميع سكان الكوكب الأزرق عن طريق الاسلحة النووية والذرية والهيدروجينية وإلخ، بل إنَّ ما دمَّرهُ الاستخدام السيئ للعلم يفوقُ مئاتِ المراتِ ما دمره الاستخدام السيئ للدين، فلماذا يبقى العلم معصوما مصونا من وصمة الارهاب، والدين يتهم بالارهاب بسبب التمثيل السيئ لبعض أتباعه.

    ردحذف