الاثنين، أكتوبر 13، 2014

عن آليات التشهير -- سام هاريس

دعوني أوضح كيف يعمل هذا. رغم أن بإمكاني اقتباس مئات الأمثلة من آخر أسبوعين فقط، إليكم ما استيقظت لأراه: شخص ما يدعو نفسه @dan_verg_ على تويتر انتزع أسهل عباراتي إساءة للفهم في نهاية الإيمان من سياقها (الضروري جدا)، وربطها بصورة مخيفة لي، واعتبرني ”مجنونا فاشيا يدعو للإبادة الجماعية.“ ثم أعاد رضا أصلان نشرها. وبعد ساعة، نشرها غلين غرينوالد من جديد.


لم يستغرق الأمر ثانيتين من وقتهما، كي تنشر هذه الرسالة لملايين الناس. ولكني أعرف أمرا واحدا كيقين أخلاقي: أن غرينوالد وأصلان يعرفان أن هذه الكلمات لا تعني ما تبدو عليه. فنظرا لقدر المحادثات التي مررنا بها حول هذه الموضوعات، ونظرا لأني أصبت المستمعين بالملل وأنا أوضح هذه العبارة (ردا على هذا النوع من المعاملة)، فاحتمال أن أيا من الكاتبين يظن أنه يكشف الحقيقة حول أفكاري—أو أني فعلا ”مجنون فاشي يدعو للإبادة الجماعية“—هو صفر. إن أصلان وغرينوالد—”باحث“ مشهور و ”صحفي“ مشهور—قد انخرطا في حملة من التشهير المحض. فهما يضللان قراءهما عن عمد ويزيدان من احتياطاتي الأمنية بفضل ذلك.

مهما كان مستوى معارضتي لرؤى شخص آخر، فإني لم أتصرف هكذا أبدا. حيث لم أقم عن معرفةٍ بتشويه المواقف التي أنتقدها، سواء كانت عقائد دين ما أو معتقدات شخصية عند فرنسيس كولنز، إيبن ألكسندر، ديباك تشوبرا، رضا أصلان، غلين غرينوالد، أو أي كاتب أو شخصية عامة أخرى اصطدمت بها من قبل. إن الحد الفاصل بين النقد الصارم والتشهير هو معرفة أنك تسيء تمثيل خصمك.
 

إليكم العبارة في سياقها (p. 52-53):
إن سيطرة الإيمان على حياتنا العاطفية تبدو شاملة. فلكل عاطفة يمكنك الإحساس بها، يوجد بالتأكيد اعتقاد يمكنه حثّها خلال لحظات. تصور المقدمة التالية:
ابنتك يتم تعذيبها ببطء في سجن إنجليزي.
ما الذي يقف بينك وبين الرعب الخالص الذي قد تطلقه مقدمة كهذه في عقل وجسد شخص يصدق بها؟ ربما لا توجد لك ابنة، أو تعرف أنها بأمان في المنزل، أو تعتقد أن السجانين الإنجليز معروفون بسماحتهم. مهما كان السبب، فإن الباب إلى الإيمان لم ينفتح بعد على مصراعيه.
إن الرابط بين الإيمان والسلوك يرفع الرهان بنحو ملحوظ. فبعض المقدمات من الخطورة بحيث قد يكون من الأخلاقي أن تقتل أشخاصا لاعتقادهم بها. قد يبدو ذلك ادعاء استثنائيا، لكنه ينطق عن حقيقة اعتيادية عن العالم الذي نحيا فيه. فبعض العقائد تدفع بأتباعها خارج متناول كل وسيلة سلمية للإقناع، وتلهمهم لارتكاب أفعال من العنف الاستثنائي ضد الآخرين. ولا يمكن، في الواقع، التحدث إلى بعض الأشخاص. إن لم يمكن القبض عليهم، وكثيرا ما لا يمكن، فقد يملك الأشخاص المتسامحون رغم ذلك مبررا في قتلهم دفاعا عن النفس. هذا ما حاولت الولايات المتحدة فعله في أفغانستان، وهذا ما يجب علينا وعلى سائر القوى الغربية أن نحاول فعله، بكلفة أعظم في حقنا وحق الأبرياء في الخارج، في أرجاء العالم الإسلامي. فنحن نستمر بسفك الدماء ضمن ما يعد، في جوهره، حرب أفكار.

وهناك هامش لهذه الفقرة يقول:

لا يجب علينا أن نخضع أعضاء القاعدة ”للقضاء العادل“ فقط بسبب ما حصل في 11 سبتمبر 2001. فآلاف الرجال والنساء والأطفال الذين اختفوا تحت ركام مركز التجارة العالمي، لا يمكننا مساعدتهم—وأفعال القصاص الناجحة، مهما بدت مرضية لبعض الناس، لن تغير هذه الحقيقة. إن أفعالنا اللاحقة في أفغانستان وغيرها مبررة نظرا لما قد يحدث للمزيد من الأبرياء لو استمر أعضاء القاعدة بالعيش في ضوء معتقداتهم الشاذة. إن رعب 11 سبتمبر يجب أن يحرّكنا، ليس لأنه يوفر لنا حقدا يجب أن نقتص له، بل لأنه يثبت دون أدنى شك أن بعض المسلمين في القرن الحادي والعشرين يعتقدون حقا في أشد دعائم إيمانهم خطرا ولامعقولية.
إن السياق الأوسع لهذه الفقرة هو تحليل نفسي وفلسفي للإيمان كماكنة للسلوك—وما يربطه بالسلوك هو جوهر هذه المناقشة. لماذا يعد أخلاقيا أن نسقط قنبلة على قادة داعش في هذه اللحظة؟ نظرا لكل الدمار الذي ألحقوه؟ كلا. فقتلهم لن يفعل شيئا لرفع ذلك الدمار. بل يعد أخلاقيا أن نقتل هؤلاء الرجال—من جديد، فقط لو لم نستطع القبض عليهم—نظرا لكل القتل والمعاناة التي يريدون إحداثها في المستقبل. ولماذا يريدون ذلك؟ نظرا لما يعتقدونه عن الكفار، المرتدين، النساء، الجنة، النبوءة، أميركا، وهلم جرا.

يعرف أصلان وغرينوالد أني لا أقترح في أي مكان من أعمالي أن نقتل أشخاصا غير مؤذين لجرائم فكرية. ولكنهم (إلى جانب العديد من زملائهم) يفعلون ما بوسعهم لنشر هذه الكذبة عني. كما أن معظم التعليقات التي أطلقوها حول أعمالي مضللة بنفس القدر.

إن أصلان وغرينوالد يهبطان بحوارنا العام، ويجعلان النقاش النزيه لأفكار مهمة غير مريح بشكل متزايد—بل وخطرا على صعيد شخصي. لماذا يقومان بذلك؟ أرجو أن تسألوهما ومن ينشر لهما.

المصدر: On the Mechanics of Defamation

الأربعاء، أكتوبر 08، 2014

هل يمكن إنقاذ الليبرالية من نفسها؟ -- سام هاريس

بيل ماهر، سام هاريس، و بن أفليك في حلقة 3 أكتوبر 2014
 
لقد أثار تصادمي الأخير مع بن أفليك في برنامج بيل ماهر، Real Time، قدرا كبيرا من الجدل. ويبدو أن تعقيبا نهائيا أمر مستحق.

لمن لم يشاهدوا البرنامج، لن يبدو لمعظم ما أكتبه هنا معنى ما لم تشاهدوا فقرتي هذه:



ما الذي حدث إذن؟

أعترف أني قد فوجئت قليلا بعدائية أفليك. لا أعرف من أين جاء بها، لأننا لم نلتقي قبل مشاركتي في الجلسة. وقد كان واضحا من محادثتنا بعد البرنامج أنه لا اطلاع له مطلقا على عملي. وأشك أن هناك بين ناصحيه أحد المعجبين بغلين غرينوالد، حضّره لهذا الظهور عبر إخباره ببساطة بأني عنصري ومحرض للحرب.

أيا كان السبب، فلو شاهدت الفيديو الكامل لمحادثتنا (الذي يبدأ في الواقع قبل المقطع أعلاه) سترى أن أفليك كان يستهدفني من البداية. أظن أن ما لا يعرفه العديد من المشاهدين هو أن المقابلة في منتصف البرنامج يجب أن تكون محادثة محددة بين خمس وسبع دقائق بين [بيل] ماهر والضيف الجديد—وكل الجلوس يعرفون ذلك. وتجاهل هذا الترتيب والتجاوز على هذه المساحة جلفٌ بعض الشيء؛ أما المقاطعة والانتقاد، كما فعل أفليك، فهي عدائية جدا. لقد حاول أن يسدد ضربته الأولى بعد 90 ثانية فقط من جلوسي، قبل أن يطرح موضوع الإسلام حتى.

رغم أني كنت على علم بأني لم أكن محبوبا من أفليك، فلم أكتشف مدى عدائيته على البرنامج حتى شاهدته على التلفاز في اليوم التالي. لم يكن ذلك بأي حال محادثة عادية بين أغراب. فمثلا: قلت أن الليبرالية تخوننا في شأن الثيوقراطية الإسلامية، وعلق أفليك ساخرا، ”شكرا لله على وجودك!“ (كانت هذه ثاني مقاطعة لمقابلتي.) ثم قلت، ”تصدّر لنا اليوم ميمة الإسلاموفوبيا، التي يساوى فيها كل انتقاد لعقيدة الإسلام بالتعصب تجاه المسلمين كأفراد،“ وقفز أفليك للمرة الثالثة، بنحو جعل مقابلة منتصف البرنامج لاغية عمليا: ”توقف لحظة—هل أنت الشخص الذي يفهم العقيدة الإسلامية المصوغة رسميا؟ هل أنت مفسر لذلك؟“

كما أشار العديد منذئذ، فقد أثبت أفليك ونيكولاس كريستوف نظرتي بسرعة، عبر إساءة فهم كل ما قلته أنا وماهر عن الإسلام بوصفه تعصبا ضد المسلمين. فقد كانت عباراتنا ”مقرفة،“ ”عنصرية،“ ”قبيحة،“ ”كالقول بأنك يهودي مراوغ“ (أفليك)، و ”كاريكاتير“ يملك ”أثرا من طريقة حديث العنصريين البيض عن الأميركيين السود“ (كريستوف).

إن أشد ما قلته إثارة للجدل كان: ”يجب أن نملك القدرة على انتقاد الأفكار الرديئة، والإسلام هو المنبع للأفكار الرديئة.“ وقد لاقت هذه العبارة اتهامات لا تحصى ”بالتعصب“ و ”العنصرية“ على الإنترنت وفي وسائط الإعلام. ولكن تخيل أننا في العام 1970 وأني قلت: ”الشيوعية هي المنبع للأفكار الرديئة.“ هل يعقل أن أهاجم ”كعنصري“ أو شخص يحمل حقدا لاعقلانيا للروس، الأوكرانيين، الصينيين، الخ؟ هذا هو حالي بالضبط. فانتقادي للإسلام انتقاد للاعتقادات وعواقبها—ولكن زملائي الليبراليين يرونه معكوسا كتعبير عن تعصبي تجاه الشعوب.

واستمر التوتر في الجلسة بالتزايد. ففي نقطة ما حاول أفليك مقاطعتي بالقول، ”أوكي، دعه [كريستوف] يتحدث لثانية.“ وحين أنهيت جملتي، لوحّ بيده بنفاد صبر، مشيرا إلى أني كنت أدندن مطولا. وحين شاهدت هذا الحديث على التلفاز (لغة جسده ونبرته أقل وضوحا على النت)، وجدت أن حقد أفليك تجاهي مذهل جدا.

ولكني أودّ إيضاح أمر واحد. فأنا لم آخذ عدائية أفليك بنحو شخصي. فهذا أمر ألاقيه الآن بانتظام عند من يصدقون بالأكاذيب حول عملي التي اختلقها بمواظبةٍ أمثال رضا أصلان، غلين غرينوالد، كريس هيدجز، وآخرون. لو كنت جالسا على طاولة وأمامي شخص ”يعرف“ أني عنصري ومحرض للحرب، فكيف لي أن أتصرف؟ لا أعرف بصراحة.

لقد أثار كريستوف نقطة أن هناك مسلمين شجعانا يخاطرون بحياتهم لإدانة ”التطرف“ في المجتمع المسلم. وهم موجودون بالطبع، وأنا أحتفي بهم. ولكنه بدا غير واعي تماما بأنه كان يثبت نقطتي لأجلي—والنقطة هي، طبعا، أن هؤلاء الناس يخاطرون بحياتهم اليوم إذ ينادون بحقوق الإنسان الأساسية في العالم الإسلامي.

حين قلت لأفليك أنه لم يفهم استدلالي، أجابني، ”لا أفهمه؟ استدلالك هو ’كما تعلم، السود، يطلقون النار على بعضهم، فهم سود!‘“ ماذا توقع مني أن أرد عليه—”شكرا للتصحيح“؟

رغم أني أوضحت أني لا أدعي أن كل المسلمين يلتزمون بالعقائد التي أنتقد؛ مميزا بين الجهاديين، الإسلاميين، المحافظين، وسائر المجتمع المسلم؛ ومبرئا بصراحة مئات ملايين المسلمين الذين لا يأخذون أحكام الكفر، الردة، الجهاد، والشهادة بجدية. ولكن أفليك وكريستوف أكدا أني كنت أهاجم كل المسلمين كمجموعة. لسوء الحظ، فقد أسأت التعبير عند هذه النقطة، قائلا أن مئات ملايين المسلمين لا يأخذون ”إيمانهم“ بجدية. وقد جعل ذلك العديد من الناس يظنون أني أشير للملحدين المسلمين (الذين لا يوجدون بهذه الأعداد بكل تأكيد) وألمح إلى أن الوحيدين القادرين على إصلاح الإيمان هم من تركوه. لا أعرف كم مرة على المرء أن ينكر أنه يشير إلى مجموعة كاملة، أو يقتبس نتائج استطلاع محددة أو يبرر النسب التي يتحدث هو عنها، ولكن لا قدر من التوضيح يبدو كافيا لإحباط تهم التعصب والافتقار ”للتدقيق.“

من الأمور الأشد إحباطا في تداعيات هذه المحادثة هي الطريقة التي يعظم بها أفليك اليوم لفضحه ”العنصرية،“ ”التعصب،“ و ”بغض المسلمين“ عندي وعند ماهر. وهذه علامة أخرى على أن اتهام أحدهم ببساطة بهذه الخطايا، مهما كان لامنطقيا، يكفي لتأسيسها كوقائع في عقول العديد من المشاهدين. ولا ينفع بالتأكيد أن أشخاصا بلا ضمير مثل رضا أصلان وغلين غرينوالد لا يزالون يحرفون المحادثة بهذا النحو.

بالطبع، فإن أفليك أيضا يندد به بشكل واسع بوصفه أبلهاً. ولكن معظم هذا النقد أيضا غير منصف. فإن من يصفونه كمجرد ”ممثل“ خرج عن حد فهمه، ليسوا أفضل ممن يرفضونني ”كعالم أعصاب“ لا يمكنه لهذا أن يعرف أي شيء عن الدين. وأفليك ليس مجرد ممثل: فهو مخرج، منتج، كاتب سيناريو، متبرع خيري، وقد يصبح يوما ما سياسياً. وحتى لو لم يكن إلا ممثلا، فليس ذلك سببا لافتراض أنه ليس ذكيا. في الواقع، فأنا أعتقد أنه ربما *يكون* ذكيا جدا، مما يجعل محادثتنا أشد إحباطا.

النقطة المهمة هي أن الـCV غير مهمة ما دام لكلام صاحبها معنى. ولسوء الحظ، فلم يكن أفليك كذلك—ولا حتى كريستوف، وهو فعلا خبير في هذا الشأن، وخصوصا ما يتعلق بمأساة النساء في العالم النامي. إن فشله في الاعتراف والتقدير لبطولة صديقتي أيان حرسي علي يظل عيبا صحفيا وفضيحة خُلُقية (وقد أخبرته بذلك بعد البرنامج).

بعد البرنامج، اتضحت بضعة أمور عن رؤى أفليك وكريستوف. فبدلا من الوثوق بنتائج الاستطلاعات وشهادات الجهاديين والإسلاميين، فهما يثقان بالشعور الذي يحصلان عليه من عشرات المسلمين الذين يعرفانهم شخصيا. وكوسيلة لقياس رأي المسلمين حول العالم، فهذا التقديم جنوني بلا شك. لكنه مفهوم رغم ذلك. فعلى أساس خبرتهما الحياتية، يعتقدان بأن نجاح جماعة مثل داعش، رغم قدرتها على تجنيد الآلاف من الناس من المجتمعات الحرة، لا يعني شيئا عن دور العقائد الإسلامية في إلهام الجهاد العالمي. وبدل ذلك، فهما يتخيلان أن داعش تمثل ضوء جاذبا للسيكوباثيين—حيث تجذب ”شبابا متمردين“ يرغبون بفعل أشياء رهيبة لشخص ما، في مكان ما، وبأية حال. ولسبب غريب ما فإن هؤلاء الأفراد المضطربين لا يمكنهم مقاومة دعوة للسفر إلى صحراء غريبة كي ينالوا امتياز ضرب أعناق الصحفيين وعمال الإغاثة. وأنا في انتظار بند في [الدليل النفسي] DSM-VI يصف هذه الحالة المقلقة.

خلافا لما يظنه العديد من الليبراليين، فإن الصبية الأشرار الذين يصلون إلى سوريا في هذه اللحظة لمشاركة داعش ليسوا جميعا سيكوباثيين، وليسوا ببساطة أفرادا مكتئبين يذهبون للصحراء كي يموتوا. فمعظمهم تحرّكهم معتقداتهم بعمق. وبعضهم يشعر بالتأكيد بأنه نسخة روحية من جيمس بوند، يخوض حربا كونية ضد الشر. وبعد كل شيء، فهم ينشرون دينهم الحق إلى أطراف الحرب—أو يموتون دون ذلك، ويصبحون شهداء، ويعيشون في الجنة للأبد. ويبدو الليبراليون العلمانيون غير قادرين على فهم كم يمكن لهذه الرؤية أن تكون مجزية نفسيا.

كما حاولت أن أوضح في [كتابي الجديد] الاستيقاظ Waking Up، فالعديد من الحالات الإيجابية للعقل، كالنشوة، محايدة أخلاقيا. بمعنى أن ما يهم فعلا هو ما تظن أن الشعور بالنشوة يعنيه. إن كنت تظن أنه يعني أن خالق الكون يجازيك خيرا على تطهير قريتك من النصارى، فأنت مؤهل لداعش. في حين يذهب شباب ملتحون غيرك إلى [مهرجان] الرجل المحترق Burning Man، محيطين أنفسهم بنساء عاريات مطليّات الأجساد، ويشعرون بحالة عقلية مشابهة.

بعد البرنامج، أكملت أنا، كريستوف، أفليك، وماهر هذه المحادثة. وفي نقطة ما، كرر كريستوف ادعاءه أني وماهر قد فشلنا في الاعتراف بوجود كل المسلمين الصالحين الذين ينددون بداعش، مشيرا للوسم #NotInOurName [ليس باسمنا]. ورددت عليه قائلا: ”نعم، أوافقك أن كل إدانة لداعش أمر جيد. ولكن ما الذي تظنه سيحصل لو أحرقنا نسخة من القرآن في حلقة اليوم؟ ستكون هناك أعمال شغب في عشرات البلدان. ستسقط سفارات. وردا على استهانتنا بكتاب، سيخرج ملايين المسلمين للشوارع، وسنقضي باقي حياتنا ونحن نصدّ عنا تهديدات فعلية بالموت. ولكن حين تصلب داعش الناس، تدفن الأطفال أحياء، وتغتصب وتعذب النساء بالآلاف
وكل ذلك باسم الإسلامفالرد هو بضع مظاهرات صغيرة في أوربا ووسم تويتري.“ ولا أظن من القسوة أن أقول أن أفليك وكريستوف لم تكن لديهما إجابة لمّاحة على ذلك. كما لم يتظاهرا بالتشكيك في حقيقة ما قلته.

أعتقد بصدق أن أفليك وكريستوف يضمران خيرا. فهما قلقان جدا من عداء الغرباء في أميركا ومستقبل المغامرات العسكرية القادمة. ولكن ذهنهما مشوش حول الإسلام. فمثل العديد من الليبراليين العلمانيين، يرفضان القبول بالأدلة الوفيرة على أن أعدادا هائلة من المسلمين يعتقدون بأمور خطرة عن المشركين، الردة، الكفر، الجهاد، والشهادة. ولا يعرفون أن هذه العقائد لا جدال فيها في الإسلام، كقيامة يسوع في المسيحية.

لكن آخرين في هذه المجادلة ليسوا بنفس البراءة. فالسبب في محادثتنا على [برنامج] Real Time كان مقابلة مع رضا أصلان على CNN، وبّخ فيها ماهر على عبارات قالها عن الإسلام في الحلقة الماضية. لقد كنت دوما أعتبر أصلان شخصية هزلية. فأفكاره عن الدين عموما كومة من الهراء المتباهي—رغم أنه يتحدث بنفحة من الثقة ربما تُخجِل جنكيز خان في عز سطوته. ولكن في موضوع الإسلام، فقد بدأ أصلان يظهر شرورا أكثر. لا يمكن أن يعتقد بما يقوله، لأن معظم ما يقوله كذبة أو نصف حقيقة وظفت لتضليل جمهور ليبرالي. فلو ادعى أن شيئا ما ليس في القرآن، فيحتمل أنه هناك. لا أعرف ما هي أجندته، عدا ركوب موجة من ندم البيض بين مقابلة وأخرى، لكنه يتلاعب بالانحيازات الليبرالية بهدف إغلاق المحادثة حول موضوعات مهمة. فوفقا لما يعرفه بالتأكيد عن محتوى القرآن وكذلك الحديث، حالة الرأي العام في العالم الإسلامي، معاناة النساء وسائر المجموعات المستلبة، والتأثيرات الواقعية للاعتقادات الدينية العميقة، فخديعته حول هذه الأمور أمر يأباه الذوق في نظري.

كما حاولت أن أوضح في برنامج ماهر، فما نحتاجه هو محادثة صريحة حول الرابط بين الاعتقاد والسلوك. ولا أحد يعاني عواقب ما يعتقده المسلمون ”المتطرفون“ أكثر من سائر المسلمين. فالحرب الأهلية بين السنة والشيعة، قتل المرتدين، اضطهاد الناس—كل هذه الشرور لا علاقة لها بالقصف الأميركي أو المستوطنات الإسرائيلية. نعم، لقد كانت حرب العراق كارثة—كما يشير أفليك وكريستوف. ولكن دعنا نأخذ لحظة لنتصور مدى كآبة الاعتراف بأن العالم سيكون أفضل لو تركنا صدام حسين في السلطة. لقد كان من أشد البشر شرا على الإطلاق، وأمسك ببلد كامل كرهينة. ولكن استبداده كان حائلا أيضا دون حرب دينية بين السنة والشيعة، مذابح المسيحيين، وسائر الأهوال الطائفية. أن القول بأن الأفضل كان ترك صدام حسين وشأنه، يخبرنا بأمور محبطة جدا عن العالم الإسلامي.

مهما كانت فرص إخراج الإسلام من العصور الوسطى، فالأمل ليس في ظلاميين مثل رضا أصلان، بل في إصلاحيين مثل ماجد نواز. إن محك النزاهة الفكرية في هذه النقطة—الذي يفشل فيه العديد من الليبراليين—هو الاعتراف بأن المرء يمكنه رسم خط مستقيم من عقائد معينة في الإسلام نحو التعصب والعنف الذي نشهده في العالم الإسلامي. ونواز يعترف بذلك. لا أرغب بتقديم انطباع عن أنني وإياه ننظر للإسلام بنفس الشكل. في الواقع، فإننا نخوض الآن مساجلة مكتوبة سننشرها ككتاب إلكتروني في الأشهر القادمة—وأنا أستفيد منه الكثير. ولكن نواز يعترف بأن أفق انتشار التشدد في المجتمع الإسلامي يمثل مشكلة هائلة. وخلافا لأصلان، فهو يؤكد أنه يجب على إخوته في الإسلام أن يجدوا طريقة ما لإعادة تفسير الإيمان وإصلاحه. وهو يعتقد بأن الإسلام يملك الموارد الفكرية لفعل ذلك. وآمل بالتأكيد أنه محق. ولكن أمرا واحدا يتضح: يجب إلزام المسلمين بأن يقوموا بإعادة التفسير—ولهذا فنحن في حاجة للمحادثة الجادة.


المصدر: ?Can Liberalism Be Saved From Itself

السبت، يوليو 26، 2014

قاعدة أسينية في القرآن -- مارك فيلونينكو

تشير السورة 24 [النور] في الآيات 27-31 إلى قواعد مختلفة تتعلق بالأدب بين المؤمنين: كأن لا يدخل أحدهم بيت غيره دون أن يعلن عن نفسه أولا؛ وأن تلتزم النساء بالعفة والخِمار. ثم تعود لنفس الموضوع في الآيات 57 إلى 63. وتتعامل الآية 60 مع مشكلة ذات علاقة، هي الوجبة الجماعية. وهي تقول:
”ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج، ولا على أنفسكم: أن تأكلوا من بيوتكم، أو بيوت آبائكم، أو بيوت أمهاتكم، أو بيوت إخوانكم، أو بيوت أخواتكم، أو بيوت أعمامكم، أو بيوت عماتكم، أو بيوت أخوالكم، أو بيوت خلتكم، أو ما ملكتم مفاتحه، أو صديقكم. ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا…“
وهنا يسمح محمد للمؤمنين بأن يجلسوا على مائدة أقاربهم، أو من تربطهم بهم صداقة. وهذا السماح يتوسع ليشمل الأعمى والأعرج والمريض. ومن الواضح أن هذا الامتداد لا يبدو مناسبا للسياق، من حيث الأسلوب وكذلك المعنى. ولا يحاول المفسرون الأوائل إخفاء خجلهم. فوفقاً للضحّاك، ”كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض، فقال بعضهم: إنما كان بهم التقذر والتقزز. وقال بعضهم: المريض لا يستوفي الطعام، كما يستوفي الصحيح؛ والأعرج المنحبس، لا يستطيع المزاحمة على الطعام؛ والأعمى لا يبصر طيب الطعام، فأنزل الله: أن ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى والأعرج.“

ويعترف البيضاوي بأن هذا الوصل الغريب "لا يلائم ما قبله ولا ما بعده". في الواقع، كما يلاحظ بلاشير، وفاقاً لغولدتسيهر، فمن الصعب أن نعتقد أن الأعمى والأعرج كانوا يستثنون من الوجبة الجماعية فقط على أساس إعاقتهم.

ولدينا مزيد، فهذا الاصطلاح النادر ”ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج“ يوجد في سورة أخرى، هي 48 [الفتح]. وفيها يتحدث الرسول مع بعض الأعراب المترددين في المشاركة في غزوة مقاتلة [48: 16]، ”ستُدعَون إلى قوم أولي بأس شديد: تقاتلونهم أو يُسلمون؛ فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسنا، وإن تتولّوا كما تولّيتم من قبل يعذّبكم الله عذاباً أليما.“ ولكن [محمداً] يضيف مباشرة:
”ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج [في امتناعهم عن الذهاب للقتال].“
وهذا التحديد لائق تماما في هذا السياق. فمن الطبيعي كفاية—كما قد يظن المرء—أن العمي والعرج والمرضى، لحقيقة أنهم معاقون، معذورون في عدم المشاركة في المعارك. وسيتفهّم المرء إذن لو اعتبر النقّاد أن ذكر العمي والعرج والمرضى في السورة 24 إنما يأتي من السورة 48. ورغم ذلك، كما أكّد توري، فهناك مشكلة صامدة: كيف للمرء أن يقرر لو كانت هناك إزاحة عفوية أو إدراج مقصود؟

إن الحملة المذكورة في السورة 48 ليست غزيّة عادية، بل هي حلقة من حلقات الحرب المقدسة. ونحن نعرف مكانة هذا المثال الجهادي في الإسلام. ولكن قبل-تاريخه يظل غامضا بعض الشيء. إن مقارنة مع العهد القديم تفرض نفسها علينا، ومع لفائف البحر الميت بشدة أكبر. فلفافة أبناء النور ضد أبناء الظلام تمجد الحرب المقدسة، بشكل لم يعرف من قبل، وتصف بالتفصيل التكتيكات، الأسلحة والقواعد عند جنود الرب المقدسين. وبهذه الطريقة يجد المرء خطة مكتملة للتحرك، وصفات أخلاقية وبدنية محددة لمن يقاتل ومن لا يقاتل. والمجموعة الثانية هي ما يثير اهتمامنا لأقصى حد:
”وأي رجل أعرج أو أعمى أو مشوّه، أو له في جسمه عيب دائم، أو مصاب بنجاسة في جسده، فإن أحدا من هؤلاء لا يذهب معهم إلى القتال.“
إن الإضافة، في تنظيمات الحرب، لمجموعات أخرى من المعاقين إلى هؤلاء العرج والعمي والمقعدين، لا تكفي للتغطية على اكتشاف أدق من أن يكون مجرد صدفة. لقد علم النبي بالتنظيم القمراني. ولا يوجد سبب جيد للاندهاش، ما دام النبي، كما حاولنا أن نثبت في غير مكان، على علم بالتقاليد الأسينية. وينبغي أن نلاحظ من جديد أن النبي قد غير القصد الأصلي من القاعدة القمرانية. فوفقا للنص العبري، يستثنى العمي والعرج والمقعدون بسبب نجاستهم. أما وفقا للنص العربي، فهم معفوّ عنهم نظرا لإعاقتهم.

كما نجد في الدستور الملحق قائمة طويلة من الأشخاص المستثنين من الجماعة:

”ولا يدخلنّ أي شخص أصابته أي من هذه النجاسات الإنسانية في اجتماع الله. وكل شخص أصابته هذه النجاسات، وغير جدير بشغل مركز وسط الرعية، وكل شخص إصابته في جسده، وشلّ بقدميه أو بيديه، أعرج أو أعمى أو أصم أو أبكم أو مصاب في جسمه بعاهة ظاهرة للعينين، أو كل شخص معمر يترنح دون أن يستطيع الوقوف ثابتا وسط الرعية. لأن ملائكة القداسة موجودون في رعيتهم. وإذا كان لدى أحدهم شيء يقوله لمجمع القداسة، فإنه يُستجوَب عندها بمفرده، لكنه لا يدخل وسط الرعية لأنه مصاب.“
وهكذا، فالعمي والعرج والمرضى من كل الأنواع مستثنون من الاجتماع، ولأسباب أهم بكثير من الوجبة الجماعية التي يشار إلى تنظيمها من جديد في الدستور الملحق بعد عدة أسطر. فالعمي والعرج والمقعدون، النجسون وفقا لشرائع سفر اللاويين، سينتهكون الوجبة المقدسة إلى غير رجعة عبر حضورهم. وهذا يفسّر إزاحة جزء من اصطلاح ”ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج“. فهذا الإدراج، الذي ربما كان مؤلفه هو الرسول نفسه، متأصل في الاستعداد لقبول العمي والعرج والمرضى في الوجبة الجماعية. إنه رفض واضح لقاعدة أسينية كان بعض يهود المدينة يريدون، دون شك، أن يروها محترمة.

فمحمد إذن لا يستنسخ ببساطة ودون وعي موقفه من العمي والعرج والمرضى عن الممارسة القمرانية. بل يحافظ عليه في كل ما يخص الحرب، ويرفضه في كل ما يخص الطعام. والسبب في هذا التمييز الدقيق واضح: ففي نظر محمد، يجد العمي والعرج والمرضى أنفسهم، بسبب إعاقتهم، غير قادرين بدنيا على المشاركة في الحرب المقدسة. ولكنهم ليسوا مصابين بنجاسة طقسية: حيث يمكنهم المشاركة في الوجبة الجماعية.

المصدر:

الأربعاء، يناير 01، 2014

فيكتور ستينجر -- الإلحاد الجديد .. ملخصاً


في هذا الكتاب، قمت بالمراجعة والتوسع في الأفكار التي أصبحت مترابطة مع ”الإلحاد الجديد“، كما قدّمته الكتب واسعة الانتشار التي ظهرت بين 2004 و 2009 من تأليف سام هاريس، ريتشارد دوكينز، دانيال س. دينيت، كريستوفر هيتشنز، وأنا. وفيها انفصلنا عن رؤى الملحدين التقليديين في أنحاء عديدة، وكما سنرى أيضا، فقد أضفنا أصواتهم إلى أصوات المؤمنين المحتجّة.
إن فلسفة الملحدين الجدد تتلخص جيدا في عناوين كتبهم وما تحتها. فهاريس يدعو إلى ”نهاية الإيمان“ لأنه من الخطر وغير النافع أن نؤمن دون أدلة. ويرى دوكينز أن الإيمان بالله ”وهم“. ويدعونا دينيت إلى ”كسر تعويذة“ التابوهات المتعلقة بدراسة الدين ومساءلته. كما يكتب هيتشنز حول ”كيف يسمّم الدين كل شيء“، وأدعي أنا ليس فقط أنه لا توجد أدلة على وجود الله، بل أن ”العلم يثبت عدم وجود الله“.
لقد انتقد بعض الملحدين هذه المواقف نظرا لأنها لا تقبل المساومة. فهم يقولون أننا في حاجة للعمل مع الجماعات الدينية ”المعتدلة“ لو شئنا إبعاد الخلقية عن المدارس. والملحدون الجدد حين لا يرغبون أيضا بوجود الخلقية في المدارس، لا يرون فيها مشكة عابرة يمكن معها التغاضي عن الضرر الأكبر في المجتمع الذي ينتج عن التفكير اللاعقلاني المرتبط بالدين. فما دام المؤمنون المعتدلون مستمرين بالدعوة إلى إيمان بلا سند واضح، يدّعي أن الوحي الإلهي مصدر للمعرفة، فإنهم بذلك يشجّعون العناصر المتطرفة في ذلك الإيمان على التصرف بحرّية في ارتكاب أي فعل رهيب، معتقدين أنهم بذلك ينفّذون إرادة الله.
يتّهم النقاد المؤمنون الجدد الملحدين ’بالعلموية‘، وهي المبدأ القائل بأن العلم هو الوسيلة الوحيدة التي يمكننا بفضلها التعلم عن العالم والإنسانية. ولكنهم لن يستطيعوا اقتباس أي ملحد جديد ادّعى ذلك. فنحن نعترف تماما بقيمة مجالات الفكر والنشاط الأخرى ونشترك فيها، كالفن، الموسيقى، الأدب، الشعر، والفلسفة الخُلُقية. وفي نفس الوقت، حين يتعلق الأمر بالظواهر المشاهَدة، فنحن نصرّ على أن يكون للمنهج العلمي دور مناسب. وذلك يتضمن التساؤلات عن الفوق طبيعي ووجود أي إله يساهم بنشاط في شؤون الكون.
كما يحاول المؤمنون الاحتجاج بأن العلم يعمل وفق الإيمان لا أقل من الدين، بافتراض أن العلم والعقل ينطبقان على العالم. وذلك إنما يفضح جهلا بالعلم يتفشى في أوساط المؤمنين واللاهوتيين. فالإيمان هو الاعتقاد في غياب الأدلة، والعلم هو الاعتقاد في ظل الأدلة. وحين يختلف الدليل مع فرضية علمية، تسقط الفرضية، أما حين يتعارض الدليل مع فرضية دينية، فالدليل يسقط.
وكذلك يسيء المؤمنون فهم استخدام العقل: حيث يقولون أنه ليس بإمكانك إثبات أن الكون معقول دون الوقوع في استدلال دائري، مفترضين أن ذلك هو ما تريد إثباته. وإن كان، فاستدلالهم دائري أيضا، لأنهم يستخدمون العقل فيه. ولكن ما هكذا تجري الأمور: فالحال ليس أن الكون معقول أو لا. بل أن الناس عقلانيون أو لا. فالعقل والمنطق ليسا سوى طرق للتفكير والكلام تم تصميمها للتأكد من أن الفكرة متسقة مع نفسها ومع البيانات. فكيف تتوقع أن تفهم أي شيء من تفكير وكلام غير عقلاني ولا متناسق؟
في هذا الصدد، أود التأكيد على أن نزاعنا مع المؤمنين فكري صرف. ولا أرى ما يمنع أن يتم بكل تحضر. كثيرا ما نتّهم بالاشتراك في ”سجالات“ ضد الدين، ولكن القاموس لديّ يعرّف السجال بأنه ”استدلال مفعم بالعواطف“. فما المشكلة في أن يكون المرء مفعما بالعواطف تجاه استدلالاته؟ فالمؤمنون يحملون نفس العواطف تجاه استدلالاتهم. إننا لا نرى بأسا في سؤال المؤمنين أن يقدّموا أدلة وبراهين عقلانية على إيمانهم، بدلا من الحفاظ على الهدوء كما يفعل العديد من أصدقائنا الملحدين واللاأدريين خوفا من إهانة ”عقائد معتنقة بعمق“. فلماذا تتم تخطئتنا على استحضارنا الحقائق التاريخية حول الفظائع التي ارتكبت باسم الله؟ وكذلك فلدينا كباحثين مطلق الحق في الإشارة إلى التناقضات والأخطاء الصريحة في النصوص المقدسة، وفي وصف اللقى التاريخية والآثارية التي تثبت بما لا يقبل الشك أن أحداثا مثل خروج بني إسرائيل لم تحدث قط، وأن يسوع الذي يصفه العهد الجديد هو إلى حد كبير، إن لم يكن بالكامل، شخص أسطوري. إننا لا نحاول هنا إغلاق المؤسسات الدينية، ولكن يحق لنا كمواطنين أن نعترض على التوزيع غير القانوني أو الدستوري لأموال دافعي الضرائب على تلك المؤسسات، إضافة لسائر الامتيازات الخاصة التي يهبها لهم السياسيون الجبناء. كما نحس أن مهمتنا تتمثل بالاحتجاج حين يستند مسؤولون في الحكومة على الخرافة بدلا من العلم في صنع القرارات التي تؤثر في حياة الجميع على هذ الكوكب.
لقد قمت بالاستفاضة في الموقف العلمي للإلحاد الجديد، الذي يعتقد أن نموذجا ماديا بالكامل عن الكون يوفر تفسيرا مقبولا لكل مشاهداتنا، من الكونيات وحتى العقل البشري، دون أن يترك أي فجوة يحشر فيها الله أو الفوق طبيعي.
يعتقد المؤمنون أن لديهم ثغرة لإدخال الله، يوفرها الانفجار الكبير الذي يتطلب خلقا فوق طبيعي. وقد أظهرتُ كيف أن هذا الزعم يقوم على فكرة خاطئة هي أن الكون لا بد أن تكون له بداية ذات كثافة لا نهاية وحجم شديد الضآلة تدعى ’بالتفرّدية‘. وهم يفسرون هذه التفردية خطأ على أنها بداية الزمان والمكان.
كان ستيفن هوكينغ من بين مؤلفي ”البرهان“ الأصلي قبل ثلاثة عقود على أن تفردية كهذه هي نتيجة لنظرية آينشتاين في النسبية العامة. ولكنه قبل عقدين، في كتابه الشهير ”تاريخ موجز للزمن“، فصّل أن الحساب الأصلي لم يأخذ ميكانيك الكم بالحسبان، وأنه حين يتم ذلك لن تحدث التفردية.
حتى في أحدث كتبهم ومحاضراتهم، يستمر المؤمنون بتجاهل هوكينغ وتمرير هذا الخطأ. ولا يبدو أنهم يهتمون لأن جمهورهم عموما ليسوا على قدر كافي من التعقيد الفكري لاستيعاب ذلك. ربما لم تكن للكون بداية: ففي أحد السيناريوهات المقبولة التي يمكن اشتقاقها رياضيا بالكامل، ظهر كوننا عن كون آخر سابق كان موجودا دوما، عبر عملية مفهومة جيدا تعرف بالنفقية الكمية.
نفس سوء الفهم أو التجاهل هذا للحقائق العلمية ينطبق على زعم إيماني آخر، هو أن الكون مولّف بدقة للحياة بحيث لا يمكن إلا لكائن ذكي أن يخلقه. حتى ألمع زملائي في الإلحاد الجديد يجدون مشكلة مع هذا الزعم لأنهم ليسوا فيزيائيين. في هذا الكتاب وما سبقه، حاولت أن أشرح أسباب فشل الاحتجاج بالتوليف الدقيق. إن معايير الكون ليست مولفة بدقة على الإطلاق. فهي إما تمتلك القيم التي لديها نظرا لأنها اعتباطية من الأصل، أو مثبتة بفضل قوانين الفيزياء، وإلا فهي تسمح ببعض أشكال الحياة حين تتغير المعايير الأخرى. أحد الأخطاء التي يقع فيها غير المؤهلين في زعمهم التوليف الدقيق هو تثبيتهم لكل المعايير إلا واحدا والتلاعب به وحده. وكل عالم حسن التدريب يعرف أن كل المعاملات يجب أن تتغير خلال دراسة ما يجري عند تغير معاملات النظام.
إن حركة التصميم الذكي في البيولوجيا تتجه نحو موت طبيعي، رغم أننا سنسمع منها بضع شهقات الموت قبل دفنها النهائي. أما التصميم الذكي في الكونيات فيستحق الموت فعلا، وأنا متعب من توجيه السهام نحوه. والمساحة الجديدة التي يحاول فيها المؤمنون تحديد موقف هي العقل. فهم يظنون أن بإمكانهم العثور على ثغرة تناسب الله في حقيقة أن علم الأعصاب لم يصل بعد إلى إجماع بخصوص نموذج مادي صرف لعمليات الدماغ التي ترتبط بالتفكير والوعي. ولكننا قد رأينا أن كل الأدلة تشير إلى العقل كظاهرة مادية صرف وأن الاعتراضات المشروعة على هذا الاستنتاج هي إما لاهوتية أو فلسفية. أما ادعاءات الأدلة على قوى خاصة للدماغ، كالإدراك فوق الحسي ESP، فلا تصمد أمام تطبيق نفس المعايير الصارمة المتبعة في تقييم أي ادعاء غير اعتيادي في العلم.
لقد قدمت أمثلة على الفظائع في الكتاب المقدس والتي اقترفها الدين عبر العصور. وقضيت بعض الوقت مع المورمون لأنهم يمثلون طائفة تشكلت في وقت قريب بما يكفي لتوافر بيانات تاريخية موثوقة نخرج منها باستنتاجات حول سبب التلازم بين الدين والعنف كما بين الحصان والعربة. أحب الأجوبة البسيطة، والجواب على ذلك بسيط: فالمرء قادر على نحر حنجرة رضيع إن كان مقتنعا بأنه يؤدي أوامر الله.
كما قمت بالرد على بعض انتقادات الملحدين الجدد، وخصوصا تلك الموجهة ضد سام هاريس وكريستوفر هيتشنز، الذين يرميان باللائمة في 9/11 وسائر الأعمال الإرهابية تحديدا على الدين وليس كنتيجة وحيدة للقمع السياسي. وكما رأينا في الفصل الخامس، فإن التعليمات الأخيرة التي أعطاها محمد عطا لفريقه لا تترك مجالا للريب: فالإسلام هو ما دفع بتلك الطائرات في تلك المباني.
تحاول العديد من الكتب الإيمانية التي تنتقد الملحدين الجدد أن تحتج بأن ”ملحدين“ مثل ستالين وهتلر قتلوا من البشر أكثر من كل ملوك العالم المسيحي، والحملات الصليبية، ومحاكم التفتيش جميعا. وهذه القضية واهية من عدة جبهات. فأولا، لا يوجد كتاب مقدس إلحادي يأمر الناس بأن يقتلوا الناس باسم الإلحاد، كما يشرّع الكتاب المقدس والقرآن لقتل الكفار. وثانيا، فإن هتلر لم يكن ملحدا. وثالثا، فلو لم يكن هناك دين، لما كانت هناك جماعة منفصلة مبغوضة كاليهود الذين تمت ملاحقتهم عبر القرون لأنهم ”قتلة المسيح“. ورابعا، فإن مستندات كشفت حديثا عن الحقبة السوفياتية تثبت أن ستالين لم يقتل باسم الإلحاد، بل قام في الواقع بتطبيع العلاقات مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية خلال الحرب العالمية الثانية. وكثيرا ما تعاونت الكنائس مع الحكومات، مهما بلغت قسوتها، عن قرب بهدف قمع المعارضة، حيث تعاونت الكنيسة الكاثوليكية مع النازيين؛ وساعدت الأرثوذكسية الروسية على بقاء القياصرة في الحكم، واستمر حكام روسيا السوفياتية والمعاصرة في الاستفادة منها في هذا الصدد.
إن المرء لا يقيس الشر بأعداد القتلى. فهل قتل عشرة أبرياء أسوأ من قتل واحد؟ كل ملك، بابا، صليبي أو مفتش قتل شخص واحدا بظلم يعد مقترفا للشر. وكما يسجل التاريخ فقد قُتِل من البشر باسم الدين أكثر بأضعاف ممن قتلوا باسم الكُفر.
لقد قضيت بعض الوقت في تلخيص استنتاجات الباحث الكتابي بارت إيرمان، الذي بعد أن خدم كوكيل بروتستنتي تخلى عن إيمانه حين وجد أن الكتاب المقدس والتعاليم المسيحية تفشل في تفسير المعاناة في العالم. لا شيء من الأجوبة الكتابية ينفع. فقد علّم الأنبياء أن المعاناة هي عقاب الله على العصيان. ولكن حتى الطائعون يعانون، كما تشهد بذلك قصة أيوب. إن ادعاء أن المعاناة هي بما كسبت أيدي الناس، الذين مكّنتهم من ذلك الإرادة الحرة، يفشل في تفسير المعاناة من الظواهر الطبيعية. فكرة أخرى هي أن المعاناة إحدى أبواب التوبة، التي تأتي بالخير في محل الشر. ولكن أي خير قد يأتي من الأطفال الكثر الذين يموتون من المجاعة كل يوم؟ وفي الختام، فإن الكتاب المقدس يعد بأن المعاناة والموت سينتهيان حين يعود يسوع في يوم الدين الأخير. وقد وعدنا يسوع بأن ذلك سيحصل خلال جيل، لكنه لم يتحقق حتى الآن.
كما راجعت باختصار الأجوبة التي قدمتها سائر الأديان، عدا المسيحية، على المعاناة. ففي الإسلام، تعتبر من إرادة الله التي لا يُسأل عنها. والهندوس يرون أن المعاناة تختفي في حياة قادمة. والبوذا يعلم طريقا ثمانيا لإنهاء معاناة الفرد، الذي ينبع من فناء الذات حين تنتهي سلسلة حيوات المرء بالعدم. كما تعلم الطاوية التوقف عن حب الذات واستبداله بحب العالم.
لقد اقترح سام هاريس في نهاية الإيمان أن نلقي الانتباه إلى بعض بصائر البوذا وسائر الروحانيين والباطنيين الشرقيين لمساعدتنا على فهم عقولنا. وقد كتبت المؤرخة الدينية كارين آرمسترونغ حول الفترة بين 900 ق.م و 200 ق.م، التي وصلت الذروة عند حوالي 500 ق.م، حيث حصل تحول جسيم في التفكير البشري. ولم تتكرر ثورة مماثلة في التفكير البشري إلا بين 1600-1700 م مع ارتقاء العلم والعقل في الغرب. تسمّى تلك الفترة السابقة بالعصر المحوري وتتميز باتجاه المفكرين في الهند والصين نحو الباطن وبحثهم عن الحقائق داخل أنفسهم عبر تخلية عقولهم وتحرير أنفسهم من عبودية الأنا. كما تصف آرمسترونغ تحولات في التفكير حدثت في اليونان وأرض إسرائيل، لكنها قادت إلى اتجاهين مختلفين.
المثير للانتباه أن الحكماء الأهم: بوذا، لاو تزو، وكونفوشيوس، كلهم عاشوا عند حوالي 500 ق.م. كما يفترض أن ثاليس الملطي، وهو أول عالم في التاريخ المدوّن، توقع كسوف الشمس الذي حصل في 29 مايو 585 ق.م، مقتدحا زناد العصر المحوري اليوناني. ورغم أن هذا الحدث محل نزاع، فالعلم اليوناني إنما بدأ مع ثاليس. ومن المصادفات أن اليهود قد سيقوا للسبي إلى بابل قرابة عام 585 ق.م، مما قاد إلى عصر محوري يهودي.
وفي حين أن قلة من المتألهين في الأديان الإبراهيمية علّموا أيضا فضائل نفي الذات، فإن ما قاد السواد الأعظم من معتنقي تلك الأديان كان التفكير شديد الأنويّة. ومع أن الأمر أقل حدة في اليهودية، فإن المسيحية والإسلام لم يصبحا أهم دينين في العالم إلا لسبب واحد: الوعد بالحياة الأبدية.
لا يمكن للإلحاد أن يتنافس مع هذا الوعد. فنحن لن نحصل على متحول واحد لو وعدناه بالعدم بدلا من الفردوس (أما الجحيم فينذَر به الآخرون). وكذلك فلو كنت ملحدا بالفعل وترى في الفردوس حلما مستحيلا كما هو بالفعل، فأنت في حاجة لطريقة تواجه بها العدم. لقد أشار الحكماء العظام لهذا الطريق، ولو استأصلنا الركام الفوق طبيعي والخرافات التي راكمتها الأديان التي تأسست فوقها خلال الـ25 قرنا الأخيرة، سيكون لدينا ما نسمّيه بالطريق الطبيعي: فنحن كائنات طبيعية مادية، ذات أدمغة طبيعية مادية استطاعت التطور، بأي طريقة كانت، لإعطائنا شعورا متساميا بالذات.
يؤكد المؤمنون أن الدين ضروري من أجل مجتمع أخلاقي، وأن الأخلاق إنما تأتي من الله، وأنه في مجتمع إلحادي سيتواثب الجميع كالوحوش. ومن المؤكد أن هذا ليس وليد الوقائع، التي تشير إلى أن المشاكل مع الجريمة، العنف ضد الأطفال والأزواج، الحمل عند المراهقات، إدمان العقاقير، وسائر العلل الاجتماعية إنما تقلّ في المجتمعات الأقل تديّنا. والأدلة متضافرة على أن المجتمعات الأسعد، الأصح، والأفضل تكيفا في العالم هي تلك التي تحررت فيها الأكثرية من الإيمان بالله.
وفي حين لا يزال الباحثون يناقشون الآليات، فمن المرجح جدا أن الأخلاق تطورت طبيعيا في المجتمع ولم يتم تبنّيها إلا لاحقا، وبشكل منقوص، في الدين. تعتبر العديد من التعاليم الكتابية، مثل دعم العبودية وإخضاع النساء، لاأخلاقية بالمعايير الحديثة. وتكشف هذه الأمثلة أيضا أن القيم ليست ثابتة وإنما تتطور مع الزمن.
أي قيم معينة إذن يقترح الإلحاد الجديد أن تعيش وفقها؟ ليست مختلفة أبدا عن تلك القيم المرتبطة بالإنسانوية والعقلانية الفلسفية عموما. يمكنك أن تجدها في وفرة من الأدبيات، لاسيما الأعمال العديدة لبرتراند راسل. ومن بين الملخصات الحديثة: فلسفة الإنسانوية لكورليس لامونت، اليوبراكسوفيا لبول كيرتز، كيف تحيا لبيتر سينغر، والقيمة والفضيلة في كون ملحد لإريك ج. ويلنبرغ. ويقدّم المؤلف الأخير هذه الفكرة:
إن الانتصار في القبول بالطبيعية يتمثل في فرض السيطرة على عقل المرء ذاته. ففي كون تخضع فيه البشرية إلى حد كبير لقوى لامبالية أخلاقيا خارج نطاق سيطرتها، يتمثل أحد أبرز أنواع الإنجاز في فرض السيطرة. وفي الحالة الخاصة للقبول بالطبيعية، فإن الانتصار هنا هو على الخوف.  فالمؤمن الديني مدفوع بالخوف؛ وبهذا الشكل، فإن عقل المؤمن، وكذلك جسده، معرّض لقوى تتجاوز نطاق سيطرته. ولكن الطبيعي يتولى السيطرة على عقله، ويرفض أن يسود عليه الخوف؛ هذا الانتصار على الكون هو إنجازٌ هام بذاته وفي ذاته.
لقد أسيئ فهم رسالة الإلحاد الجديد بشكل رهيب باعتبارها سلبية حصرا. ولكن لكل جانب سلبي هناك وجه إيجابي أكبر منه. فالإيمان سخيف وخطر، ونحن نطمح إلى اليوم الذي، مهما بعُد، يتخلى فيه الجنس البشري عنه. والعقل بديل نبيل عن ذلك، ويشهد له نجاحه. إن الدين مرض فكري وأخلاقي لا يمكنه الاستمرار للأبد إن كنا إطلاقا على ثقة في التقدم البشري. فالعلم لا يرى حدا لقابلية البشر على فهم الكون وذواتهم. الله غير موجود، والحياة من دونه تعني أننا الحاكمون على مصائرنا.
إن كنت مؤمنا بالله أو بشيء آخر، اخلع عنك النير وانضمّ إلينا. إن كنت لاأدريا، انظر إلى الأدلة وسترى أننا بالفعل نعرف أن الله غير موجود، وشاركنا. إن كنت ملحدا وتعتقد أن بإمكاننا العمل مع المؤمنين المعتدلين، فتمعّن في نتائج الفكر اللاعقلاني وتابعنا.

الجمعة، ديسمبر 20، 2013

موجز النزاعات بين الدين والعلم -- فيكتور ستينجر

  • طبيعة الواقع
كل الأديان، بما فيها البوذية، تعلّم عن وجود واقع يتجاوز ويتعالى على العالم المادي الذي يكشف نفسه لحواسّنا وأجهزتنا العلمية، واقع يمكننا التوصل إليه بطرق فوق حسية. ورغم أن العلم مستعد للنظر في أي أدلة تظهر، فلم يظهر لحد الآن أي دليل يتطلب إضافة أي كائن غير مادي إلى النماذج التي تصف المشاهدات. وبالمثل، فلم يتم التحقق موضوعيا من أي معلومة تحصّلت بطرق فوق حسية.
في هذا الصدد، كثيرا ما يقال بأن العلم لا يملك ما يقوله عن الفوق طبيعي. ولكن هذا خطأ: فلو كان الفوق طبيعي موجودا وله تأثير على العالم المادي، فإن هذه التأثيرات ستخضع للدراسة العلمية.
  • نشأة الكون
تعدّ فكرة الخلق الإلهي أساسية في معظم الأديان. وفي وقت ما بدا من المستحيل أن يظهر الكون للوجود بشكل طبيعي. وقد رأى المسيحيون [وكذلك المسلمون] في نجاح نموذج الانفجار الكبير دعما مضافا لقصة الخلق التوراتية. إذ يبدو على الأقل أنه قد أثبت أن للكون بداية وهذا يؤدي، حسب تفكيرهم، إلى أن علة هذه البداية لن يكون غير الله الخالق.
ولكن الكونيات الحديثة ثبّطت من هذا الأمل إلى حد بعيد، فقد اتضح لاحقا أن الانفجار الكبير لا يحتاج لأن يكون بداية للزمان والمكان وأن الكون ربما يكون أزليا، أو أقله يمكن إثبات خطأ المزاعم اللاهوتية بأن الكون الأزلي مستحيل رياضيا. واليوم يبدو من المعقول، بل والمرجح، أن كوننا ليس سوى واحد بين عدد غير محدود من الأكوان الأخرى. وقد تم نشر العديد من السيناريوهات المعقولة للنشأة الطبيعية لكوننا من قبل باحثين مرموقين. وهذا يكفي لتفنيد أي زعم بأن المنشأ الإعجازي ضروري.
وكما هو الحال مع كل الآراء العلمية، فهذه الاستنتاجات تظل مؤقتة. ومع أنها لا تتناقض بشكل مباشر مع وجود خالق، فالعلم لا يرى حاجة إليه في حين لا يحيا الدين بدونه.
  • التوليف الدقيق
يجادل اللاهوتيون بأن معاملات الفيزياء دقيقة التوازن إلى درجة أن أي تغيير ضئيل في قيمها سيؤدي لاستحالة الحياة. ولهذا، فلا بد من أن الخالق هو من قام بتوليف هذه المعاملات بدقة بحيث يمكن لنا، ولشكل الحياة خاصتنا، أن نتطور.
يمكن تفنيد هذا الزعم على عدة صُعُد. والتفسير الأشهر بين علماء الفيزياء والكونيات هو أن هناك عدة أكوان، وأننا نعيش في الكون الذي يناسبنا.
ولكن حتى لو لم يوجد كون غير كوننا هذا، فيمكن العثور على تفسيرات ملائمة في معرفتنا الحاضرة لقيم هذه المعاملات الأهم. كما يمكن إثبات أن للأخريات مدى من القيم يجعل بعض أشكال الحياة ممكنا.
  • الاحتجاج بالتصميم
جادل المفكرون عبر قرون طويلة بأن النظام الذي نشاهده من حولنا هو دليل على التصميم الإلهي في الكون. ولكن شخصية (فيلو) في كتاب ديفيد هيوم ”محاورات حول الدين الطبيعي“ (1779)، عدّد نقاط الخلل في  هذا الاحتجاج. وبكل بساطة، فإن الكون لا يبدو مصمما على يد إله كامل خير، فهو يزخر بالنقصان ويفيض بالشر والمعاناة.
تدّعي حركة التصميم الذكي المعاصرة أن التراكيب المعقدة تتطلب معمارا وبناء، وأن العمليات الطبيعية تعجز عن توليد معلومات جديدة. وهم بذلك يطبقون قانونا خاطئا عن ”حفظ المعلومات“. فالمعلومات تكافئ الإنتروبيا السالبة، والإنتروبيا لا تخضع لقانون الحفظ. إضافة إلى أن تولّد النظم المعقدة من البسيطة يمكن مشاهدته في مواقف فيزيائية عديدة، كما في تحولات الحالة التي تتم بشكل طبيعي من الغاز إلى السائل ثم إلى الصلب في غياب الطاقة الخارجية.
  • التطوُّر
تعد الحياة على الأرض خير مثال على التعقيد الطبيعي. وقد أظهر التطور الدارويني كيف تطورت، خلال بلايين السنين، كل الأنواع الموجودة من أشكال أبسط عبر عملية التطفّر بالصدفة والانتقاء الطبيعي. يثبت لنا التطور كيف يمكن للبساطة أن تتطور نحو التعقيد، رغم أنها لا تتطلبه.
أكثر من 50% من الأميركان يقولون بصراحة أنهم لا يؤمنون بالتطور. وفي حين يرفض البروتستانت الأصوليون القبولَ بالتطور بسبب تناقضه الصريح مع الكتاب المقدس، فإن الكاثوليك والبروتستانت المعتدلين يدّعون أنهم يعترفون بالتطور ولا يرون فيه ما يناقض إيمانهم. ولكن الاستبيانات تكشف أنه لا يوجد في الواقع مسيحيون يقبلون بنظرية التطور كما تفهمها البيولوجيا الحديثة. فهم يصرّون على أن يد الله توجّه التطور، في حين لا يؤدي الله دورا في النظرية التطورية المتعارفة. بل إن آلية التطور تتمثل تحديدا بالتنوع غير الموجه زائدا الانتقاء الطبيعي، وهو ما يفسر التعقيد والتنوع الحيوي الذي نشاهده، والغياب الواضح للهدف الخير بل مطلق الهدف.
لقد حُكِم على محاولات تدريس الخلقية في الولايات المتحدة تحت قناع ”علم الخليقة“ أو ”التصميم الذكي“ في المحاكم الفيدرالية بأنها انتهاك لدستور الولايات المتحدة، لأنها تمتلك دافعا واضحا لدعم الدين. ولكن 17% من مدرّسي البيولوجيا في الثانويات لا يغطّون التطور و 60% ينفقون أقل من خمسة ساعات على موضوع يمثل أساس البيولوجيا الحديثة. وهنا لا يمكن لتأثير الدين السلبي على العلم أن يكون أشد وضوحا.
  • الوعي الكمي والكون الكلاني
منذ الـ1970ـات، كان دعاة ’العصر الجديد‘ وأنصار الظواهر الخارقة يدّعون أن ميكانيك الكم تدل على أن الوعي البشري يمكنه التأثير في الواقع، ليس الآن وهنا فقط بل في كل مكان وأوان ضمن الزمكان، ماضيا ومستقبلا. وهذا يعني أن الكون هو كل ٌّ واحد موحد يضبّط فيه العقل البشري ضمن ”وعي كوني“.
وهذه الفكرة الجامحة لا تدعمها الأدلة التجريبية ولا النظرية الكمية نفسها، كما يفهمها الخبراء.
وكذلك فإن ادّعاء المؤمنين أن الفيزياء الحديثة قد هدّت أسس المادية، وأنها تشير إلى كون كلاّني، لا تدعمه الحقائق أيضا. فالنموذج القياسي للجسيمات والقوى، الذي يقوم على النسبية وميكانيك الكم، هو مادي اختزالي بالكامل.
  • الاختزالية والبزوغ
منذ أيام الذرّيين الإغريق وعبر الميكانيك النيوتني وحتى النموذج القياسي الحالي للجسيمات والقوى، كانت الفيزياء اختزالية دوما—تختزل كل شيء إلى مجموع أجزائه. فعالَم الفيزياء ذو ترتيب هرمي، يبدأ بالجسيمات الأساسية فالذرات فالجزيئات وهكذا، وصولا للعقل، فالمجتمعات البشرية، وهكذا وصولا إلى الكون. وفي كل مستوى تُكتَشَف مبادئ جديدة لا يمكن عموما أن تشتق من فيزياء الجسيمات. ويقال أن هذه المبادئ الجديدة ”تبزغ“ من المستويات الأولى.
إن الحكمة الشائعة حول هذه العملية هي أن ”السهم السببي“ يظل مشيرا للأعلى منذ أوطأ مستويات الجسيمات. ولكن اللاهوتيين وبعض العلماء يحدسون أن هناك ”سهما سببيا“ آخر يشير للأسفل بحيث يمكن للمبادئ البازغة أن تؤثر في سلوك كيانات من مستوى أدنى. ومن ثم يتصورون الله على أنه المبدأ البازغ الأعظم، الذي يتصرف في عالم المادة والعقل.
ولكن الأمثلة التي يقدّمونها تتسم بالسطحية، كمثال المضغاط في اسطوانة غاز الذي يحرّك ذرات الغاز. فالذرات في المضغاط ببساطة تحرك الذرات في الغاز عبر تصادمات جسيمية بطريقة اختزالية بالكامل. كما يمكن إثبات أن بعض المبادئ البازغة، كمبادئ الثرموديناميك، ديناميك الموائع، ونظرية الشواش، يمكن في الواقع اشتقاقها من فيزياء الجسيمات. فهي جسيمات طول الطريق للأعلى والأسفل أيضا.
  • لاهوت المعلومات
بعد الثورة العلمية في القرن ال17، أصبحت الماكنة أو تروس الساعة أشهر مجاز عن الكون، الذي يعمل بشكل جبري، وفق قوانين الميكانيك النيوتني، ولكن بعد أن قام مبدأ اللايقين والثورة الكمية بإسقاط الجبرية، أعلن العديد من المؤلفين ”نهاية المادية“ في مساواة غير منطقية بين المادة والماكنة. ومع فجر عصر الحواسيب، أصبح ‘العالم كحاسوب‘ وخصوصا كحاسوب كمي، هو المجاز الجديد حول الطبيعة.
لقد اقترح بعض المؤلفين أن المادة الحقيقية التي يعمل بها الحاسوب ليست هي المادة matter بل المعلومات. وقد قفز اللاهوتيون على عربة ’مضاد المادة‘، ولكن تصادمها مع المادة ضمن النموذج القياسي لا ينتج ضوءا كافيا. فحتى الحواسيب الكمية تتكون من مادة، وإن حاسوبا كميا كونيا يتركب من جسيمات أساسية يبدو أن يوفر مجازا مفيدا لكيفية تطور الكون المعقد الذي نعيش فيه، بشكل طبيعي خلال 13,7 بليون سنة من بقعة أصلية من الفوضى تمتلك أقل حد من المعلومات.
  • الإرادة الحرة، الأخلاق، والعدالة
عادة ما يفترض أنه إن كان العقل ظاهرة مادية بالكامل، فليس للبشر أي إرادة حرة. وهذا بالطبع يحيل العقيدة الدينية الأساسية عن الخطيئة والتوبة إلى حطام. ورغم ذلك، فبالإمكان تصور نوع من الإرادة الحرة بما أن قراراتنا الفردية تظل قائمة على تجارب حياة واحدة، تختصّ كلاً منا بشكل فريد.
يفترض المؤمنون بإله، دون تردد، أنه مصدر الأخلاق وأن المجتمع سيكون خبيثا، منحرفا، فاسدا ومتهتكا ما لم يقم الله بدعم تقواهم. وهذا يتناقض تماما مع الحقيقة المشاهدة: أن الأكثرية الساحقة من غير المؤمنين ليسوا خبثاء، منحرفين، فاسدين أو متهتكين، في حين أن نسبة لا تهمل من المؤمنين هم كذلك.
يمكننا جميعا أن نرى أن العالم ليس مكانا عادلا، فالأشرار كثيرا ما يزدهرون في حين يكدح الأخيار. وإن كان المرء مؤمنا بالعدالة اللانهائية، فإن عدالة كهذه لن تجيء إلا في الحياة الآخرة. ولسوء الحظ، لا يوجد لدينا سبب للإيمان بعدالة نهائية إلا أمانينا النقية.
إن الأصول الطبيعية للأخلاق هي اليوم مساحة واسعة للدراسة، ويتوفر حولها اليوم تنويعة طيبة من الأدبيات. وفي حين يقترح بعض المؤلفين نماذج تطورية، تقودنا أسباب مقنعة للاعتقاد بأن البيولوجيا البشرية تمر اليوم بمرحة بعد-تطورية، يمكننا فيها استخدام قدراتنا الفكرية لتطوير قوانين للسلوك تهدف لتعظيم الرفاه لدى الجميع. أما النماذج التي لم تحقق ذلك تماما فمكانها إلى جانب الدين، بكل إصراره على شرائع خُلُقية عتيقة طُوِّرت في مجتمعات بدائية. ربما كان لها غرض ذات يوم، ولكن ليس الآن بالتأكيد.
  • اللاهوت الحداثي
في حين يظل جمهور المؤمنين الدينيين متمسكين بالأفكار التقليدية عن الله بوصفه حاكم الكون، يسعى اللاهوتيون الحداثيون خلف نماذج مختلفة عن الله هي أكثر اتساقا من النتائج العلمية في التطور والكونيات والآثار، إضافة لسائر التطورات في الفلسفة واللاهوت.
فقد هاجم البعض مشكلة الفعل الإلهي في ضوء غياب الأدلة على المعجزات التي قد يتوقع أن تظهر بين حين وآخر كنتيجة لتلك الأفعال. ولكن محاولات استغلال ميكانيك الكم ونظرية الشواش لتوفير وسيلة يتصرف عبرها الله في العالم دون أن يتم اكتشافه لم توصل لنتائج مُرضية، خصوصا وأن هذا المنظور يبدو أنه يقودنا إلى نوع جديد من الإله الربوبي، إله يلعب النرد مع الكون. ومهما حاول اللاهوتيون المسيحيون، فلن يستطيعوا التوفيق بين هذا النموذج والتعاليم المسيحية التقليدية. وإضافة لذلك، فلماذا يرغب إله لطيف في أن يختفي عن مخلوقاته بحيث لا ينال أبدية من النعيم إلا ذوو الذكاء المحدود الذين يؤمنون دون تساؤل؟
رؤية أخرى يقودها اللاهوتيون البروتستنت الليبراليون هي أن الله يجب أن لا يعتبر كائنا فوق طبيعي خارج الزمان والمكان، بل كائنا موجودا في كل مكان وكل من الزمان والمكان. وهم يدّعون أن الطرق التي توصلوا بها إلى هذا النموذج تشبه إلى حد لصيق المنهج العلمي. وبالخصوص، فهذا النموذج يقوم على البيانات، وهي هنا التجربة البشرية، والنظرية، وهي تفسير هذه البيانات. ولكن، إن كانت الحال هذه، فهذا الإجراء يختلف عن المنهج العلمي في أنها كلما خضع للاختبار، كما في تجارب الدعاء، أو الخبرات الدينية، فقد فشل بانتظام. وحين يحدث ذلك في العلم، يتم رفض الفرضية قيد الاختبار. وهذا ما لم يحدث يوما في الدين، أقله كنتيجة مباشرة للاختبار.
إن حفاظ بعض العلماء على تديّنهم إنما يعود لتقسيم تفكيرهم. فالدين يقوم على الإيمان—بمعتقدات لا أساس لها في الأدلة أو العقل. الإيمان بلاهة. والإيمان فشل. فهو الضدّ الخاص للعلم. ولهذا، في النهاية، فالدين والعلم يظلان للأبد غير متوافقين من الأساس.


الثلاثاء، ديسمبر 17، 2013

إن الاقتباس الشهير لآينشتاين لم يعني ما تعلمته من قبل ..

فهو في الواقع لا يوفر أي عزاء للمؤمنين.


كان ألبرت آينشتاين من أشهر العلماء في عصرنا الحالي، ونظرا لذكائه الشديد، فإن آراءه حول الموضوعات غير العلمية كثيرا ما تعد فوق مستوى الجدل. وأحد أشهرها هو تصريحه الذي كثيرا ما يقتبسه المتدينون ومدّعو التوافق بين الإيمان والعلم. وهو يعود لمقال آينشتاين "العلم والدين،" المنشور عام 1954.
"العلم من دون الدين أعرج، والدين من دون العلم أعمى."
يستخدم هذا الاقتباس بوفرة لإثبات تدين آينشتاين وكذلك إيمانه بالتوافق—بل والتكامل المشترك—بين العلم والدين. ولكنه نادرا ما يذكر ضمن سياقه، وحين ترى السياق ستكتشف أن هذا الاقتباس يفترض أن لا يوفر أي سلوان للمؤمنين. ولكن دعني في البداية أثبت كيف أن آينشتاين، في نفس المقال، يقترح ما يعدّ جوهريا نفس صياغة ستيفن جاي غولد عن NOMA (الاختصاصات غير المتداخلة). لقد كانت فكرة غولد (التي من الواضح أنها ليست أصيلة) أن الدين والعلم متناغمان، نظرا لأنهما يمتلكان مهمتين مستقلتين إنما مكمّلتين لبعضهما: فالعلم يساعدنا على فهم التركيب المادي للكون، في حين يتعامل الدين مع القيم، الأخلاق، والمعاني الإنسانية. هذه هي صياغة  آينشتاين (مع توكيدي) :
لن يكون من الصعب أن نصل إلى اتفاق حول ما نفهمه من خلال العلم. فالعلم هو السعي عبر القرون لتجميع الظواهر المدركة لهذا العلم عن طريق التفكير النظامي في ترابطات هي أعمق ما يكون. أو بصياغة جريئة: هو إعادة بناء بَعدية a posteriori للوجود من خلال عملية التصور.
… وبالمثل، فالشخص المتدين يتصف بالتقوى، بمعنى أنه لا شك لديه في أهمية ورفعة هذه الأشياء والأهداف فوق الشخصية التي لا تتطلب أو تقدر على التأسيس العقلاني. فهي موجودة بنفس مستوى الضرورية والواقعية الذي لوجوده شخصيا. وبهذا المعنى، فالدين هو السعي الإنساني عبر العصور لأن نكون واعين بوضوح وكلية لتلك القيم والأهداف، ولأن نقرّبها ونوسّع تأثيرها بكل ثبات. لو أن المرء تصور العلم والدين وفقا لهذه التعريفات فإن الصراع بينهما يبدو مستحيلا، ذلك أن العلم يستطيع فقط التأكد مما يكون، وليس مما يجب أن يكون، وخارج هذا المجال فإن الأحكام القيمية من كل الأنواع تبدو ضرورية. أما الدين، من جهة اخرى، فيتعامل فقط مع تقييمات الفكر والفعل البشري: ولا يمكنه أن يتحدث بشكل مبرر عن الحقائق والعلاقات فيما بينها. ووفقا لهذا التفسير فإن الصراعات المعروفة بين الدين والعلم يجب أن تنسب جميعا إلى سوء فهم للحال التي وصفت توا.
على سبيل المثال، فإن الصراع يتصاعد حين تصر جماعة دينية على الحقانية المطلقة لكل العبارات المدونة في كتابها المقدس. مما يعني تدخلا من جانب الدين في فضاء العلم، وإليه ينتمي نضال الكنيسة ضد اعتقادات غاليليو وداروين. ومن جهة أخرى، فكثيرا ما حاول ممثلو العلم التوصل إلى أحكام أساسية فيما يخص القيم والأهداف على أساس المنهج العلمي، جاعلين أنفسهم بهذا في مواجهة الدين. وكل تلك الصراعات إنما نبعت من أخطاء قاتلة.
رغم هذا التقارب اللصيق مع آراء غولد في كتابه الصادر عام 1999 صخور الأزمنة، فإن غولد لا يذكر  آينشتاين ولا هذه الفقرة من كلامه. ولكن كلا الرجلين كانا مضللين في اقتراحهما أن هذا التكتيك سينجح في المواءمة بين الدين والعلم.

لماذا؟ أحد الأسباب هو أنهما قد تضمنا الأهداف والقيم البشرية بكل ثقة في اختصاص الدين، مهملين بالكامل عشرين قرنا من الأخلاقيات العلمانية ابتداءً من قدماء الإغريق. والدين ليس بالتأكيد مصدرا وحيدا، بل ليس مصدرا جيدا أصلا، لكيفية التصرف أو البحث عن المعنى في حياتنا. كما يخطئ   آينشتاين حين يزعم أن الدين يتعامل "فقط مع تقييمات الفكر والفعل البشري"، إذ يتجاهل حقيقة ملموسة هي أن العديد من الأديان تهتم أيضا بـ عبارات الحقيقة—كالعبارات حول وجود الله، أي نوع من الآلهة هو، ما الذي يريد منا فعله، إضافة إلى كيف وصلنا إلى هنا وإلى أين نذهب حين نموت. وبالفعل، فإن آينشتاين في الفقرة الثالثة يلاحظ أن للدين فعلا صلة بعبارات الحقيقة، وبالتالي ففي تعريفه خلل واضح.

لقد التف غولد حول هذا الالتباس ببساطة عبر ادعاء أن الأديان التي تطلق عبارات الحقيقة—متجاوزة بذلك على فضاء العلم—لم تكن أديانا سليمة. ولكن حيلة كهذه بالطبع تتخلى عن معظم المؤمنين في العالم، لأن معظم الأديان، بما فيها الإبراهيمية، تطلق ادعاءات حول كيفية تنظيم الكون. ولن ينفع أن يتم تعريف الدين بطريقة تستثني جمهرة المؤمنين.

وهكذا فإن لدي إشكالا مع توفيقية آينشتاين (وغولد). فالرجل كان فيزيائيا عظيما، لكنه لم يكن معصوما، ومما يدهشني أن أرى الناس يقتبسون أطروحاته غير العلمية كما لو كانت عصية على الدحض. فالخبير في الفيزياء ليس بالضرورة حجة في الفلسفة.

أما بالنسبة للاقتباس الشهير أعلاه، فإليك به ضمن السياق (مع توكيدي):
رغم أن الدين ربما يكون ما يحدد الهدف، فقد تعلّم مع ذلك من العلم، بمعناه الأرحب، أيّ وسيلة ستساهم في التوصل للأهداف التي قررها. ولكن العلم لا يمكن أن يخلقه إلا المفعمون بحقٍّ بالطموح نحو الحقيقة والفهم. ولكن مصدر الشعور هذا إنما ينبع من فضاء الدين، وإليه أيضا ينتمي الإيمان باحتمال أن تكون التنظيمات الصحيحة في عالم الوجود عقلانية، أي مقبولة لدى العقل. لا يمكنني التفكير في أي عالم أصيل يخلو من ذلك الإيمان العميق. ويمكن لهذه الحالة أن يعبّر عنها بصورة: العلم من دون الدين أعرج، والدين من دون العلم أعمى.
لا خلاف عندي مع هذه المساهمة المفترضة للعلم في الدين: مساعدته على اختيار طرق لتحقيق أهداف المرء. ولكن آينشتاين يهمل مساهمة أخرى للعلم في الدين: تفنيد عباراته عن الحقيقة. وأي دور كان لداروين في ذلك!

ولكن آينشتاين يخطئ من جديد عبر ادعاء أن "الطموح نحو الحقيقة والفهم … ينبع من فضاء الدين". فلعله يتصور "الدين" هنا كشكل من الفضول العميق حول الكون الذي يتجاوز الفرد. لكنه بالتأكيد لا يرى الدين كما يفهمه معظم الناس. لماذا لم يقل فقط أن لدى بعض الناس فضولا لا يشبع نحو اكتشاف الأشياء؟ لماذا كان عليه أن يعد ذلك الفضول شكلا من "الدين"؟ إن هذه التسوية هي ما يتسبب في تشويش مستمر حول اعتقادات آينشتاين. فهل كان شديد التوق لمجاملة المؤمنين إلى درجة إعادة تعريف "الدين" كدهشة غير مؤمنة؟ أو هل كان حقا مؤمنا بوحدة الوجود، يعبد الطبيعة بوصفها الإله؟ ليس الأمر واضحا.

ولكن الواضح من كتابات آينشتاين حول الدين والعلم، هو أنه لم يكن يعتقد بإله شخصي، وكان يرى الدين المؤلِّه خيالا من صنع البشر. ففي رسالة كتبها عام 1954، لم يدع مجالا للتردد (مترجما عن الألمانية الأصلية):
إن كلمة "الله" ليست بالنسبة لي أكثر من تعبير ونتاج للضعف البشري، والكتاب المقدس ليس سوى تجميع من الأساطير المعتبرة، إنما البدائية الخالصة، وهي مع ذلك طفولية جدا. ما من تفسير، مهما كان دقيقا، سيغير ذلك في نظري.
وبالفعل، فإن الفقرة الأخيرة من مقاله المنشور عام 1954 تثبت أن إيمانه ليس في اللاملموس، بل في العقلانية:
كلما أبعد التطور الروحي للإنسانية في التقدم، ازداد في نظري اليقين بأن الطريق إلى التدين الخالص لا يكمن في الخوف من الحياة، والخوف من الموت، والإيمان الأعمى، بل في السعي خلف المعرفة العقلانية. وبهذا المعنى فأنا أعتقد أن على الكاهن أن يصبح معلّما لو شاء الإنصاف في مهمته التربوية الرفيعة.
ختاما، فأنا أعترض على عبارة آينشتاين حول أن قيمة العقل في فهم العالم هي شكل من "الإيمان العميق". فكما كتبت في مجلة Slate، فإن ذلك يبعث على التشوش لأن المعنى الديني للإيمان هو "اعتقاد ديني راسخ دون أدلة مؤسسة"، في حين أن إيمان العالم بقوانين الفيزياء هو ببساطة مختصر لـ "الثقة الشديدة، بناءً على أدلة وتجارب مكررة، حول ماهية الأشياء". إضافة لذلك، فنحن لا نؤمن بالعقل: بل نستخدم العقل لأنه يساعدنا في اكتشاف الأشياء. وهو في الواقع الوسيلة الوحيدة التي حققنا عبرها أي تقدم في فهم الكون. ولو ثبت أن لطرق أخرى أي قيمة تذكر، كالكشف الشخصي أو ألواح ويجا، لكنا سنستخدمها أيضا.

رغم أن آينشتاين لم يؤمن بالإله المتعارف، فإن تفسيره للتوافق بين الدين والعلم قد أسيء فهمه على نطاق واسع، وبعض ذلك يعود لخطأه هو. فما كان يجب أن يقوم به هو التخلي عن كلمة "الإيمان" لصالح "الثقة النابعة من الخبرة" ثم لا يحاول ادعاء أن الفضول والدهشة تجاه الطبيعة هي أحد أشكال الدين. إن ذلك التشويش (أو ربما عدم دقة التعبير) هو ما قاد إلى سجال مطول وإساءة تمثيل لما كان آينشتاين يعتقد به حول الإله والدين.

دعني إذن أعيد صياغة عبارة آينشتاين الشهيرة في هيئة أظن أنه كان يقصدها:
العلم دون فضول عميق لن يذهب لأي مكان، والدين من دون العلم تلحقه إعاقة مزدوجة.
إعاقة مزدوجة، بالطبع، لأن الأديان المؤلّهة تستند إلى كائن فوق طبيعي لكنه خيالي، وتتعقد إعاقتها حين ترفض نتائج العلم. في النهاية، فإن اقتباس آينشتاين الشهير يجب أن لا يوفر أي عزاء—أو عتاد—للمؤلهين: لأن آينشتاين لم يرى "الدين" بوصفه ألوهيا. ولكني أتمنى لو كان قد كتب بوضوح أكثر قليلا، فكّر بوضوح أكثر قليلا، أو ربما تجنب بالكامل مناقشة العلاقة بين العلم والدين. فهو في هذا الموضوع أقل تماسكا من العديد من الفلاسفة، بل والعديد من العلماء. لقد كان آينشتاين، لكنه لم يكن إلها.

المقال الأصلي:http://www.newrepublic.com/node/115821

الاثنين، يوليو 09، 2012

كيف يقدم بوزون هيغز قصة جديدة لخلق الكون ــ لورنس م. كراوس

لم يكن الاسم الذي أطلقته وسائط الإعلام على جسيم هيغز، الذي يعتقد أنه اكتُشف هذا الأسبوع، ليكون أكثر تضليلا. وهنا يشرح لنا لورنس م. كراوس كيف يمكن لهذا الجسيم أن يتخلص في النهاية من فكرة خالق فوق-طبيعي. 

 

لقد شهدنا ضجة كبيرة منذ إعلان المركز الأوربي للبحوث النووية (CERN) يوم 4 يوليو (تموز) أن التجربتين الكبريين في مصادم الهادرون الكبير قد كشفتا عن أدلة لصالح جسيم أساسي جديد. والجسيم المقصود يبدو أنه جسيم هيغز، الذي كان العلماء يسعون خلفه منذ حوالي 50 عاما، وهو اليوم في قلب أفضل نظرياتنا الحالية عن الطبيعة. ولكن الإثارة الحقيقة يبدو أنها تكمن في حقيقة أن هذا الاكتشاف المنتظر طويلا، كثيرا ما يُدعى في الأوساط العمومية "جسيم الرب". ظهر هذا المصطلح لأول مرة في عنوان سيئ الحظ لكتاب ألفه الفيزيائي ليون ليدرمان قبل عشرين عاما، وفي حين  أنه ما من عالم (بما في ذلك ليدرمان) استخدمه قبل ذلك أو بعده، فقد أسر خيال وسائل الإعلام.

وقف العلماء في المركز الأوربي للأبحاث النووية، مبتهجين للاكتشاف
المحتمل لجسيم أساسي. (Denis Balibouse / AFP-Getty Images)

إن ما يجعل هذا المصطلح بالخصوص سيئ الحظ هو أنه لا يمكنه أن يكون أكثر بعدا عن الحقيقة. فلو افترض أن الجسيم المقصود هو بالفعل جسيم هيغز، فهو يشرّع لثورة غير مسبوقة في فهمنا للفيزياء الأساسية ويقرّب العلم من القضاء على الحاجة لأي تخاريف فوق-طبيعية في طريق العودة إلى بداية الكون—وربما حتى قبل تلك البداية، إن كان هناك قبل. فهذه الفكرة الصادمة تتنبأ بمجال غير مرئي (هو مجال هيغز) يتغلغل في كل الفضاء، وتقترح أن خصائص المادة، والقوى التي تحكم وجودنا، هي مشتقة من تفاعلها مع ما قد يبدو فضاء خاليا. لو كانت قيمة أو طبيعة مجال هيغز مختلفة، لأصبحت خواص الكون مختلفة، ولم نكن موجودين هنا نتساءل عن السبب. إضافة لذلك، يؤيد مجال هيغز فكرة أن فضاء يبدو فارغا قد يحمل بذور وجودنا. وهذه الفكرة تقع في صميم أجرأ تنبؤات علم الكونيات، أعني بذلك التضخم Inflation: التي تقترح أن نوعا مشابها من مجال الخلفية كان قائما بالفعل في اللحظات الأولى للانفجار الكبير، وهو ما دفع بمنطقة مجهرية الحجم للتمدد إلى أكثر من 85 مرتبة عشرية في كسر من الثانية، وبعد ذلك تحولت كل الطاقة التي احتواها هذا الفضاء الفارغ إلى المادة والإشعاع اللذين نراهما اليوم. يطلق ألان غاث، مؤصل هذه النظرية، عليها اسم "أعظم غداء مجاني!"

صورة مولدة حاسوبيا قدمتها CERN، يظهر فيها
الحدَث ’المرشح الاعتيادي‘ (Courtesy of Cern)

لو استمدت هذه الأفكار الجريئة، أو العنيدة كما يسميها البعض، الدعم من النتائج الرائعة في مصادم الهادرون الكبير، ففي وسعها أن تؤيد احتمالين غير مريحين نظريا: الأول، أن العديد من صفات هذا الكون، بما في ذلك وجودنا، قد تكون عواقب تصادفية للظروف التي حفت مولد الكون؛ والثاني، أن خلق "شيء" من "لاشيء" لا يبدو أنه مشكلة على الإطلاق—فكل ما نراه ربما يكون قد نشأ كجشأة كمية في الفضاء بلا هدف أو ربما جشأة كمية للفضاء ذاته. ربما خطا البشر، بأدواتهم الرائعة وأدمغتهم الأروع، للتو خطوة جبارة نحو استبدال التخمين الماورائي بالمعرفة المثبتة تجريبيا، إذ يمكن القول أن جسيم هيغز هو الآن أكثر أهمية من الله.

لورنس م. كراوس هو مدير مشروع أوريجنز بجامعة ولاية أريزونا. وأحدث كتبه هو "كون من لا شيء" (Free Press, 2012).

الخميس، يناير 05، 2012

عن الهند والحضارة والقيم الغربية ــ ابن الوراق

هناك قصة حول المهاتما غاندي منتشرة منذ سنوات. فبعد أن أخذ لجولة في بريطانيا العظمى، سُئل في البرلمان عن رأيه في الحضارة البريطانية. وأجاب غاندي: ربما تكون فكرة جيدة. يصعب تتبع مصدر هذه القصة وقد تكون مختلقة. ومع ذلك، فهذا الرد—الذي يبدي دعابة قليلة وحكمة أقل—يلخص ببلاغةٍ الجحود، النفاق، التعجرف، وعدم الفهم لدى غاندي.

كانت فلسفة اللاعنف لدى غاندي فعالة مع البريطانيين تحديدا لأنهم كانوا غير ميالين لاستخدام العنف المفرط ضد مواطنين عزل. ولهذا فقد تصرفوا بشكل متحضر، وخرجوا. هل كانت تكتيكات غاندي لتنفع مع النازيين؟ وبالإضافة، فإن الانسحاب البريطاني من الهند أعقبه العنف، حيث ذبح المسلمون الهندوس وبالعكس. نيراد تشودري، وهو مثقف هندي، أنحى باللوم دوما على غاندي. "عندي أن كل مطالبات غاندي [للحكومة البريطانية] لم تبدو متطرفة فقط، بل أيضا قاسية ولاعقلانية،" يكتب تشودري. "لقد بدا لي أن إيديولوجيته بكاملها كان يدفعها قرار بهجران الحياة المتحضرة والعودة إلى حياة بدائية." (1)

ماذا عن حضارتك الهندية ذاتها، يا سيد غاندي؟ لقد منع البريطانيون مظهرا واحد لها، وهو عادة الساتي، حيث كانت الأرملة الهندوسية تجبر على حرق نفسها على كومة زوجها الجنائزية. وكذلك منع البرتغاليون والفرنسيون لاحقا والهولنديون هذه الممارسة في مستعمراتهم الهندية. تعبير مخزي آخر عن الحضارة الهندية، وهو نظام الطبقات المشين، لا يزال فعالا حتى اليوم، مانعا الملايين من حقوقهم الإنسانية، حتى بعد خمسة وستين عاما من تحريمه قانونيا.

ماذا عن عنصريتك أنت، سيد غاندي؟ في انتقاد غني بالتوثيق، يشير ج.ب. سينغ إلى أنه خلال حروب الزولو في جنوب أفريقيا، كان المهاتما يحض الهنود على إظهار الحمية الوطنية بقتل السود. "غاندي متشوق جدا ليرى الهنود في حرب ضد السود،" يكتب سينغ. "فبعد كل شيء، يخبرهم بصراحة أنهم أيضا توسعيون ضد السود، ولهذا فوقوفهم كتفا لكتف مع رفاق التوسع البيض هو تقدم طبيعي." (2)

وإلى ماذا يسعنا أن ننسب الإخفاقات الفاضحة في الهند اليوم؟ ففي 2007، أعلن البنك الدولي أن 80 بالمئة من سكان الهند الـ1,1 ملياراً يعيشون على أقل من دولارين يوميا—وهذا يعني أن أكثر من ثلث فقراء العالم يعيشون في الهند. (3) وبعد عامين، قدّرت منظمة الصحة العالمية أن "حوالي 49 بالمئة من أطفال العالم ناقصي الوزن، 34 بالمئة من أطفال العالم المتقزمين، و 46 بالمئة من أطفال العالم المهزولين" يعيشون في الهند، رغم التقدم المثير للإعجاب في الاقتصاد الإجمالي. (4) وجد مؤشر الجوع العالمي "أن معدلات ’خطرة‘ من الجوع تستمر في الولايات الهندية التي أظهرت معدلات تحسد عليها من النمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة، بما فيها مهاراشترا وغوجرات." (5) تملك الهند حاليا أكبر تعداد سكاني للأميين في أي أمة على الأرض. والعنصرية وإدمان المخدرات منتشرة وفي تنامي. (6) يمكن للمرء حتى أن يقترح أن الحضارة الهندية قد تكون فكرة جيدة.

إن نبذ غاندي للبريطانيين بازدراء تفنده وقائع على الجانبين—من المستعمـِرين والمستعمـَرين. فعند مغادرتها، تركت بريطانيا الهند وفيها حكومة برلمانية منتخبة تحيا حتى يومنا هذا، وهي دلالة أكيدة على أن الديمقراطية قد زرعت بعمق في الفكر السياسي الهندي. والدستور الذي صاغه الهنود تضمن لائحة حقوق مشتقة من الدستور الأمريكي، مستخدما حتى بعض المصطلحات المطابقة—وهو ميراث بريطاني غير مباشر. تضمن الإرث البريطاني حكم القانون: وفي الحقيقة، أن كامل النظام القانوني الذي قدموه على مر السنين بقي دون تغيير. لقد بني على يد اللورد ماكولاي، الذي موهبته "وهبت الحياة للهند الحديثة كما نعرفها،" وفقا للمؤرخ الهندي ك.م. پانّيكار. (7) لقد ورثت الهند أيضا آلية إدارية على الطراز البريطاني، وهي الخدمة المدنية الهندية طاهرة السمعة، لتتحمل أعباء الحكومة في بلد كبير يحوي أديانا ولغات شتى.

ترك البريطانيون الهند بأطباء، معلمين، مهندسين، وحرفيين حسني التعليم، وبنية تحتية من سكك الحديد، الطرق، الجسور، ونظم الري، إضافة إلى المعمارية الڤكتورية المتميزة. واللغة الإنجليزية تمكّن هنديا من الجنوب لغته الأم هي التاميل من التخاطب مع آخر من دلهي يتحدث الهندية أو البنجابية. إن إجادة الإنجليزية تسمح للهند بأخذ مكانها في الاقتصاد العالمي اليوم. كما كانت هناك هبات روحية أيضا: فالباحثون البريطانيون وغيرهم من الأوربيين أعادوا للهند تاريخها وثقافتها. بفضولهم الفكري العصي على الإشباع، كتب البريطانيون حول كل جانب من الحياة، الأدب، الفلسفة، الدين، اللغة، الفن والمعمارية في الهند. لا تزال دراساتهم موقرة ويتم تدريسها لكل تلميذ هندي. كانت الحضارة البريطانية حقا أكثر من فكرة جيدة، بل نعمة عظيمة.

كثير مما أصبح عظيم القيمة لدى الأمم الخارجة من عصر التوسع قد ورثه لهم البريطانيون والقوى الأوربية الأخرى. ولكن عديدا من الأكاديميين الغربيين، مع بعض مثقفي العالم الثالث، يدّعون أن الغرب قد أخذ من العالم أكثر مما ساهم فيه، وأن نجاحه المادي قد تحقق على حساب الآخرين. تتم مضايقة القادة الأوربيين من أجل الاعتذار دائما عن خطايا الغرب. ويعد "أوربي التوجه" أو عنصريا أن يؤكد على أن الغرب متفوق على الثقافات الأخرى؛ وبدلا منه، يتم تشجيعنا على ترديد أن الحضارة الأوربية منقوصة ثقافيا، فكريا، وروحيا. ولكننا نعرف أن هذه مجرد سفاسف.

يناقش هذا البحث أن الحضارة الغربية جيدة للعالم. سوف أخطط مثالا أخلاقيا بالاستناد على مجموعة خاصة من القيم من تاريخ الغرب—قيم صريحة ومضمرة معا في الديمقراطيات الليبرالية الغربية، متجسدة في ذلك المستند الرائع، دستور الولايات المتحدة الأميركية. يمكننا تتبع هذه المثل رجوعا إلى الكتاب المقدس والعتاقة الإغريقية. قد يتتبع فاشي أو شيوعي أيضا مبادئه هو رجوعا بالزمن إلى اليونان القديمة، ربما إلى إسبارطة بدلا من أثينة. ولكن انتصاري لفرع مختلف من ميراثنا الغربي ليس اعتباطيا ولا ذاتيا: فالترتيبات السياسية والاجتماعية في الغرب في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين تدل على أننا وصلنا لحد معين من الاتفاق على المبادئ التي أنتجت الاستقرار والازدهار الذي تمتعنا به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

بين أهم هذه المبادئ تقف حرية الفعل Liberty والكرامة الفردية. ولكن حرياتنا تؤخذ أحيانا كمسلّمات؛ إذ ننسى أن علينا حمايتها لئلا تختفي دون انتباهنا حتى فوت الأوان. قد لا ندرك كم خطيرة هي التهديدات لقيمنا الأساسية، من قبل أعدائنا الأجانب والاسترضاء التعدد-ثقافي في الوطن. كما قال آندرو جاكسون، "إن الحذر الأبدي للشعب هو ثمن حرية الفعل." (8) في هذا الكتاب، أقترح طرقا لنكون حذرين وأقدم بعض الأدوات للدفاع عن الحضارة الغربية من الأخطار التي تواجهها.

المصدر:


Why the West is Best: A Muslim Apostate's Defense of Liberal Democracy, Ibn Warraq, 2011.

الهوامش:

(1) Nirad C. Chaudhuri, Thy Hand, Great Anarch! India 1921–1952 (New York: Addison-Wesley, 1987), p. 28.
(2) G. B. Singh, Gandhi: Behind the Mask of Divinity (Amherst, N.Y.: Prometheus Books, 2004), pp. 102–3.
(3) Alison Granito, “80% of Indians live on less than $2 a day: WB,” LiveMint.com and Wall Street Journal, October 16, 2007.
(4) “India has highest number of underweight children,” Indian Express, April 14, 2009.
(5) Somini Sengupta, “As Indian Growth Soars, Child Hunger Persists,” New York Times, March 13, 2009.
(6) India has an estimated 70 million drug addicts and the number is rising as the problem spreads to semi-urban and backward areas, according to official figures. A source from the Ministry of Social Justice and Empowerment said, “Drug and alcohol abuse is becoming an area of concern as this is increasing while traditional moorings, social taboos, emphasis on self-restraint and pervasive control and discipline of the joint family and community are eroding.” See “Over 70M drug addicts in India,” SiliconIndia, May 4, 2006.
(7) Geoffrey Moorhouse, India Britannica (London: Paladin, 1986), pp. 19, 196–97.
(8) Robert V. Remini, Andrew Jackson (New York: Harper Perennial, 1999), p. 217.

الأربعاء، يناير 04، 2012

حول نصوص توشيحية مسيحية قبل إسلامية في القرآن -- الحلقة 4

(ج) حول الشكل الأدبي للأنواع المختلفة من النص القرآني.

نصوص القرآن الإسلامية بقول ثاني وبقول واحد إنما صممت أصلا ثم تم تسليمها كنصوص نثرية. في نصوص القول الثاني، كنتيجة لإهمال أو إسقاط الإيقاعات الداخلية لما كان يوما توشيحة مسيحية، تكون نوع من الشعر أو الجملة بحيث استخدم له مصطلح "نثر قرآني مقفى" في الدراسات الغربية؛ والنصوص القرآنية اللاحقة، بقول واحد في الأصل، تستغل هذا النوع من النثر القرآني المقفى المبكر. فمنذ عهد رد-التفسير الإسلامي وإلغاء التراتيل التوشيحية، أصبحت كل آية نثر أو جملة قرآنية تقفى بكلمتها الأخيرة، رغم بُعد هذه الكلمة الآن عن الآيات والجمل النثرية الطويلة المحيطة بها، سابقة كانت أو لاحقة؛ فقد أصبحت الآيات طويلة ورتيبة بسبب إلغاء الإيقاع الداخلي. وفي أحدث النصوص بقول واحد هذه، أصبحت الجمل طويلة إلى درجة أنه، رغم انتهاء كل منها بكلمة مقفاة بعيدة، يصعب على المرء الحديثُ بعد الآن عن تأثير قافية.

وهذا يستبطن حقيقة أن النصوص المسماة إيقاعية من القرآن ليست شكلا أصيلا من الفن الشعري، بل تقنية شاذة تطورت من الإطاحة بالشعر التوشيحي المسيحي المتعقد، ومن ضرورة التعمية على التركيب التوشيحي للتراتيل المسيحية.

كنتيجة لهذا البحث، يعتقد لولينغ أن مساواة المصطلحين "نثر مقفى" و "سجع" التي تمت هنا وهناك في الدراسات الغربية، يجب التخلي عنها. فالسجع هو جملة طويلة، تلفظ بتشديد الحروف، يقولها عادة عراف وثني، وتتكون من أجزاء مقطعية قصيرة جدا، نهاياتها غير مرتبة كي تقفى وفقا لوزن شعري أو توشيحي، رغم أن السجع يتضمن الجناس وكذلك قوافي مبعثرة دون نظام.

في القرآن يظهر السجع فقط كنص إسلامي بقول واحد، كثيرا ما يوضع قبل أو بعد طبقة أساسية توشيحية مسيحية سابقا، قد طبع عليها تفسير إسلامي جديد. بما أن لولينغ ينسب النصوص بقول واحد إلى محمد، وأنها تتخذ عادة شكل سجع الكهان، فهو يرى في هذا توكيدا لأطروحته أن الحركة البد-إسلامية التي قادها النبي قد كانت واقعا حركة للابتعاد عن المسيحية الغربية، الهيلينية، التثليثية الإمبراطورية، تجاه الدين القبلي البد-سامي، المرموز له بأسلافه إبراهيم وإسماعيل. إن استخدام النبي للسجع قد يفسر لماذا عده معارضوه المكيون، الذين يعدهم لولينغ مسيحيين تثليثيين، كاهنا أو عرافا. تلك المقاطع القرآنية التي تحمل على الشعراء، مثل الشعراء: 224-226، سيتم نسبتها إلى الإنذار المسيحي القب-إسلامي ضد الوثنيين من أهل الكروم المقدسة والأماكن المقدسة، والذين تضمنوا، بكل تأكيد، العرافين الوثنيين.

(د) حول النواحي اللغوية للنصوص المختلفة في القرآن.

ينتج التحليل اللغوي لدى لولينغ لنصوص القرآن المختلفة نتيجة أنه رغم حقيقة أن القرآن الرسمي مكتوب بما يسمى عادة العربية الرفيعة أو الكلاسية، فهو في الواقع يتضمن أربع أنواع أو معايير من العربية، إلى حد إمكانية التمييز بينها، تتبع بعضها بعضا في الزمن، ويمكن تسميتها بالطبقات اللغوية.

(1) الطبقة اللغوية العربية الأقدم هي لغة التراتيل التوشيحية المسيحية سابقا. هذه العربية، وهي بحد ذاتها عامية مثقفة جدا، تختلف بشكل ملحوظ وفي عدة جوانب عن العربية الكلاسية الرفيعة. فأولا، نهايات الأسماء الإعرابية ونهايات الأفعال الزمنية إما مفقودة، أو تظهر اعتباطا لتملأ فراغات في إيقاع أبيات الموشح، ولتخدم كنهايات إيقاعية ثانوية؛ وكل ذلك دون عناية بالصواب النحوي لنهايات كهذه.

بالفعل، فكثيرا ما يبدو أن مؤلف الإيقاع يسيء استخدام النهايات النحوية الكلاسية عمدا ومزاحا كآلية شعرية ماهرة. وهذا مظهر للشعر الشعبي والعامي في لغات عدة، ويستبطن الشكل الأدبي للشعر التوشيحي القب-إسلامي. ولكن هذه اللغة العامية إنما المثقفة لا تختلف عن العربية الكلاسية الرفيعة في نحوها فحسب، بل أيضا معجميا في مفرداتها. فإضافة إلى الفرق المتوقع في اختيار ومعاني الكلمات بين العامية والكلاسية، فهناك الكثير من الكلمات السامية التي تدخلت في عربية وسط العربية المسيحية القب-إسلامية، كما يسميها لولينغ، من الثقافات المسيحية السامية المجاورة، لاسيما من معاصراتها: الآرامية الكتابية، السريانية، والأقل تكرارا: العبرية. هذه الكلمات، رغم تفرعها من نفس جذر الكلمة السامي، قد تبنت خلال التطور طويل الأمد لهذه اللغات السامية المختلفة معاني مختلفة قليلا، وأحيانا معاني مختلفة من الأصل حتى.

في الخلاصة: إن لغة التراتيل المسيحية في الطبقة الأساس في القرآن هي نحويا عامية عربية، وفوق ذلك، لغة عامية قد لقحت معجمها بوفرة الثقافات المسيحية السامية المجاورة. ولهذا فإنه من شديد الأهمية للبحث في هذه التراتيل المسيحية البد-قرآنية أن يستخدم نحو المسيحية العربية المبكرة، (6) وأن تستشار كل المعاجم المتوفرة لكل الثقافات المسيحية السامية المجاورة.

(2) وتأتي ثانيا لغة نصوص القرآن بقول ثاني.

هذه اللغة ليست فعلا لغة بالمعنى السليم للكلمة، ولكن تصورا انتقائيا وفريدا للكلام بالنسبة للموقف، كنتيجة لمحاولة فرض تفسير جديد على نص مبهم إنما مصيري. إن الطبيعة الخطاءة لهذا الكم كانت ولا تزال معذورة دون إقناع، من قبل علماء القرآن المسلمين المستقيمين وكذلك من عدة باحثي إسلام غربيين، كنتيجة من الحالة الوجدية للنبي خلال مروره بالوحي. ولكن تفسير كيف انتقل هذا الكلام الوجدي، في الحال، إلى نص الكتاب، لا يزال مفقودا.

(3) واللغة الثالثة هي لغة الإيضاحات والتفسيرات التحريرية المبكرة، المقحمة أو المضافة إلى النصوص بقول ثاني، من أجل ربط التفسير الجديد بطبقة الرسم الأساسية المستبطنة للنص. هذه اللغة، مع تفضيلها المريب للتراكيب الاسمية بدلا من الفعلية، تشكل تناقضا صارخا مع اللغة المثقفة لكل من التراتيل المسيحية المستبطنة، وكذلك العربية الكلاسية قديمة وحديثة. تكشف هذه اللغة الاسمية غالبا بفقدانها للبلاغة عن هويتها كلغة للأميين؛ وعلى الأقل كلغة دون تاريخ أدبي مستقل يمكن التعرف به.

(4) اللغة الرابعة هي لغة النصوص بقول واحد المتأخرة والأخيرة. وهذا يعني، تلك النصوص الإسلامية أصلا التي لا ترتبط مباشرة أو بتوسط مع طبقة الرسم الأساسية المسيحية سابقا، ولكن تظهر تعقيدات مترابطة أكبر من نصوص نثرية في العربية الكلاسية. هذه اللغة، في اصطلاحاتها وتعقيدها النحوي، وفي مظهرها المتمكن وبالتالي الأنيق، يجب تمييزها تفصيلا عن اللغة المعرفة في الفقرة السابقة. بناء على معلومات ينقلها التراث الإسلامي، يستنتج لولينغ أن هذه اللغة لا بد أن تنسب إلى النبي نفسه، أو ربما أحد كتابه المثقفين المسؤولين عن تسجيل إملاءاته.

مع أنه بالنسبة للغات 1 و 2 و 3، مما لا يتطرق إليه السؤال أنها لا تمثل العربية الكلاسية الرفيعة ولا يفترض بها أصلا أن تُقرأ كذلك، لا يزال سؤالا مفتوحا إن كانت اللغة الرابعة والأخيرة قد قصد بها أن تقرأ كذلك، متضمنة الحالات الإعرابية.

يفترض لولينغ النفي، ولكن رغم تشويه ورد-تفسير محرري القرآن بعد محمد لهذه اللغة الأخيرة فهي، من جديد، لغة خلقت خصيصا لأجل الموقف. هذه اللغة الرابعة والأخيرة ليست اهتمام لولينغ الأكبر، حيث أنه مهتم أكثر بالكشف عن التراتيل المسيحية العامية في الطبقة الأساسية.


المصدر:


الهوامش:

(6) First and foremost that of Joshua Blau, A Grammar of Christian Arabic (Louvain, 1966), based mainly on South Palestinian texts of the first millenium.

الثلاثاء، يناير 03، 2012

حول نصوص توشيحية مسيحية قبل إسلامية في القرآن -- الحلقة 3

الأطروحة 2: وفقا لعبارة الأطروحة 1، فالنص المتسلم للقرآن يتضمن أربعة أنواع، أو طبقات، من النصوص. وهذه الطبقات الأربع هي:

الأولى، لأنها الأقدم تاريخيا، نصوص التراتيل التوشيحية المسيحية القب-إسلامية. وهذه تسمى "النصوص المسيحية سابقا."


الثانية، واللاحقة تاريخيا، نصوص التفسير الإسلامي الجديد المطبوع على الطبقة الأساسية من النصوص المسيحية سابقا. وهذه تسمى "النصوص القرآنية بقول ثاني."


الثالثة، والموازية تاريخيا للطبقة الثانية، النصوص الإسلامية النقية أصلا؛ أي بمعنى: تلك النصوص التي تنسب إلى النبي محمد. وهذه تسمى "النصوص القرآنية بقول واحد." تشكل هذه حوالي الثلثين من مجمل القرآن، والثلث الثالث هو النصوص المسيحية سابقا المتحولة إلى النصوص القرآنية بقول ثاني.
 

الرابعة، واللاحقة لمحمد تاريخيا، هي النصوص القرآنية بقول واحد التي رد-تفسيرها محررو القرآن بطريقة شوهت بها الأفكار الأصلية للنبي. هذه النصوص تدعى "نصوص محرري القرآن بعد محمد."

تحليل أبعد لهذه الطبقات النصية المختلفة الأربع.

(أ) المصطلحات العلمية الإسلامية للطبقات المختلفة من النص القرآني.

(1) المتشابهات: "النصوص التي تشبه شيئا آخر،" أو "النصوص التي تتضمن نواحي شتى من التفسير." هذه هي المعاني الأصلية للمصطلح، ولكنها فسرت لاحقا لتشير إلى "التعابير المشبهة بالبشر في القرآن،" ربما لحرف الانتباه عن النصوص المحرجة، كتلك التي تتضمن تراتيل مسيحية أصيلة.


(2) المحكمات: "النصوص المقررة، الصارمة، غير المبهمة." أصبح هذا يعني كل القرآن، ولكنه أصلا أشار إلى النوع الثالث من النصوص المذكور أعلاه، ذلك المنسوب إلى النبي من دون أي نص مسيحي سابقا يستبطنه.
 

(3) المفصل: "النصوص التي تفسر." لا بد أن هذا المصطلح كان جزءا من المحكم، لأنه ليست كل نصوص المحكم مفصلة، ولكن النص المفصل محكم دوما. إن كان المحكم يشير للطبقة الثالثة المذكورة أعلاه، فلا بد أن المفصل يشير للإيضاحات والتفسيرات المقحمة في نصوص الطبقة الأولى والثالثة لأجل تثبيت المعاني المفضلة لاحقا لهذه الطبقة، لمنع الفهم الأصلي من الظهور. لا بد أن هذه الإقحامات كانت ثمينة في وقت لم تكن النقاط المميزة وعلامات الإعراب مسموحة بعد في نصوص القرآن. مثال واضح على تفسير مقحم كهذا هو التوبة: 16.

(ب) حول المحتويات مميزة الخصائص للأنواع المختلفة في النص القرآني.

عند المحتويات المميزة للأنواع المختلفة في النص القرآني يأتي دور الجانب النقد-عقائدي من المنهج الثلاثي للولينغ. فهو يجادل بأن المحتوى الفكري الإسلامي الذي تم طبعه على طبقة الرسم الأساسية من النصوص المسيحية سابقا قد حددتها تصورات عربية وثنية بل، في الواقع، حددها الدين العربي القبلي في عصر قبل الإسلام، وأنه من هذا المنطلق تنحو هذه النصوص ضد العقائد المسيحية واليهودية. لا يعد لولينغ تصنيفه لهذه النصوص الإسلامية الأقدم كوثنية حطا منها بل تقييما إيجابيا: حيث يرى لولينغ المسيحية الأصلية، لا الكنيسة الهلينية التوحيدية-الامبراطورية، أنه رد-طفو للدين الوثني/القبلي الشعبي من حضيض دين الكادحين. لقد كانت، واقعا، إحياءً للدين السامي القديم والإسرائيلي القبلي القديم في الأماكن المقدسة والكروم المقدسة، حيث تفتحت هذه النِحلة عند مراقد الأبطال المسيحانيين البدئيين. تم اضطهاد وسحق هذا الدين القديم على يد الدين اليهودي الإمبراطوري ليهوه وبعد إحياءة وجيزة على يد يسوع، تم سحقه ثانية على يد المسيحية الإمبراطورية. يرى لولينغ أن هذا الدين القديم قد انتشر مبكرا جدا إلى المجتمع القبلي على مدى العربية، وقد بقي هناك حتى بداية القرن العشرين.

مناقضا لتصوير الإسلام المستقيم المتأخر للدافع المحوري للحركة البد-إسلامية، الذي يعرضه كهزيمة لوثنية وسط العربية، يرى لولينغ الحركة البد-إسلامية التي قادها محمد كحركة خرجت عن مسيحية وسط العربية، وتصوراتها التثليثية بالخصوص، تجاه الدين السامي الوثني/القبلي القديم، تحت شعار "عودوا إلى دين إسماعيل وبنيه." يستدل على هذا الانزياح تجاه الدين القبلي في رد-تفسير بد-إسلامي للطبقة الأساسية المسيحية الهيلينية لنص القرآن، خصوصا في تلك المقاطع التي تحارب "الجنة،" كرم الخصوبة العربي الوثني، الذي لعنته اليهودية تماما كتلك النِحلة عند الأماكن المقدسة. هذه القطع المسيحية الهلينية ضد-الوثنية، المحتواة أصلا في نص الرسم القرآني، رد تفسيرها كلها، فيما عدا الكهف: 40، على يد الآليات التحريرية للإسلام المستقيم المبكر، بحيث أصبحت "الجنة" الوثنية بالتالي تظهر كـ"الفردوس" الإسلامي المقدس، مع متعها الحسية الوثنية، التي تختلف بكل وضوح عن السماء المسيحية. مثال آخر على هذا الانزياح البد-إسلامي عن التصورات المسيحية هو أن نصوص الطبقة الأساسية المسيحية التي تشير إلى الخلاص في المسيح تم تعديلها لتنطبق على القرآن، أو تدعيمها من قبل المحررين بعلامات سلبية، فسرت بأنها تنطبق على خصوم النبي.

إن النصوص الإسلامية بقول واحد قد تأثرت أيضا بشكل ملحوظ بهذه الأفكار القبلية الوثنية العربية، ويمكن التعرف عليها قبل كل شيء في نصوص النثر البد-إسلامية المطبوعة على طبقة الرسم الأساسية للتراتيل المسيحية سابقا. تم إقحام مثل هذه النصوص بقول واحد كإيضاحات وتفسيرات ضمن رد-تفسير النصوص المسيحية، وتظهر أحيانا كنسخ جديدة وأنيقة نصيا أو نسخ بديلة عن نصوص غير متقنة قواعديا وقاموسيا، نتجت عن رد-التفسير الأصلي للنصوص التوشيحية. هذه النسخ الجديدة أو البديلة عادة ما توضع على مبعدة من أصولها غير المتقنة، التي تكررها بشكل أنيق لغويا. وهذا ما يولد الشك في أن هذه النسخ النصية الجديدة الأنيقة لم توضع بعيدا عن أصولها الخرقاء من ناحية المسافة النصية، بل أيضا من ناحية زمن التأليف. وهذا يعني أنها قد ألفت في وقت لاحق على التداخل الأصلي غير المتقن مع الرسم، الذي فرض ضرورة إنشائها لاحقا لغرض التوضيح.


المصدر: