الاثنين، أكتوبر 13، 2014

عن آليات التشهير -- سام هاريس

دعوني أوضح كيف يعمل هذا. رغم أن بإمكاني اقتباس مئات الأمثلة من آخر أسبوعين فقط، إليكم ما استيقظت لأراه: شخص ما يدعو نفسه @dan_verg_ على تويتر انتزع أسهل عباراتي إساءة للفهم في نهاية الإيمان من سياقها (الضروري جدا)، وربطها بصورة مخيفة لي، واعتبرني ”مجنونا فاشيا يدعو للإبادة الجماعية.“ ثم أعاد رضا أصلان نشرها. وبعد ساعة، نشرها غلين غرينوالد من جديد.


لم يستغرق الأمر ثانيتين من وقتهما، كي تنشر هذه الرسالة لملايين الناس. ولكني أعرف أمرا واحدا كيقين أخلاقي: أن غرينوالد وأصلان يعرفان أن هذه الكلمات لا تعني ما تبدو عليه. فنظرا لقدر المحادثات التي مررنا بها حول هذه الموضوعات، ونظرا لأني أصبت المستمعين بالملل وأنا أوضح هذه العبارة (ردا على هذا النوع من المعاملة)، فاحتمال أن أيا من الكاتبين يظن أنه يكشف الحقيقة حول أفكاري—أو أني فعلا ”مجنون فاشي يدعو للإبادة الجماعية“—هو صفر. إن أصلان وغرينوالد—”باحث“ مشهور و ”صحفي“ مشهور—قد انخرطا في حملة من التشهير المحض. فهما يضللان قراءهما عن عمد ويزيدان من احتياطاتي الأمنية بفضل ذلك.

مهما كان مستوى معارضتي لرؤى شخص آخر، فإني لم أتصرف هكذا أبدا. حيث لم أقم عن معرفةٍ بتشويه المواقف التي أنتقدها، سواء كانت عقائد دين ما أو معتقدات شخصية عند فرنسيس كولنز، إيبن ألكسندر، ديباك تشوبرا، رضا أصلان، غلين غرينوالد، أو أي كاتب أو شخصية عامة أخرى اصطدمت بها من قبل. إن الحد الفاصل بين النقد الصارم والتشهير هو معرفة أنك تسيء تمثيل خصمك.
 

إليكم العبارة في سياقها (p. 52-53):
إن سيطرة الإيمان على حياتنا العاطفية تبدو شاملة. فلكل عاطفة يمكنك الإحساس بها، يوجد بالتأكيد اعتقاد يمكنه حثّها خلال لحظات. تصور المقدمة التالية:
ابنتك يتم تعذيبها ببطء في سجن إنجليزي.
ما الذي يقف بينك وبين الرعب الخالص الذي قد تطلقه مقدمة كهذه في عقل وجسد شخص يصدق بها؟ ربما لا توجد لك ابنة، أو تعرف أنها بأمان في المنزل، أو تعتقد أن السجانين الإنجليز معروفون بسماحتهم. مهما كان السبب، فإن الباب إلى الإيمان لم ينفتح بعد على مصراعيه.
إن الرابط بين الإيمان والسلوك يرفع الرهان بنحو ملحوظ. فبعض المقدمات من الخطورة بحيث قد يكون من الأخلاقي أن تقتل أشخاصا لاعتقادهم بها. قد يبدو ذلك ادعاء استثنائيا، لكنه ينطق عن حقيقة اعتيادية عن العالم الذي نحيا فيه. فبعض العقائد تدفع بأتباعها خارج متناول كل وسيلة سلمية للإقناع، وتلهمهم لارتكاب أفعال من العنف الاستثنائي ضد الآخرين. ولا يمكن، في الواقع، التحدث إلى بعض الأشخاص. إن لم يمكن القبض عليهم، وكثيرا ما لا يمكن، فقد يملك الأشخاص المتسامحون رغم ذلك مبررا في قتلهم دفاعا عن النفس. هذا ما حاولت الولايات المتحدة فعله في أفغانستان، وهذا ما يجب علينا وعلى سائر القوى الغربية أن نحاول فعله، بكلفة أعظم في حقنا وحق الأبرياء في الخارج، في أرجاء العالم الإسلامي. فنحن نستمر بسفك الدماء ضمن ما يعد، في جوهره، حرب أفكار.

وهناك هامش لهذه الفقرة يقول:

لا يجب علينا أن نخضع أعضاء القاعدة ”للقضاء العادل“ فقط بسبب ما حصل في 11 سبتمبر 2001. فآلاف الرجال والنساء والأطفال الذين اختفوا تحت ركام مركز التجارة العالمي، لا يمكننا مساعدتهم—وأفعال القصاص الناجحة، مهما بدت مرضية لبعض الناس، لن تغير هذه الحقيقة. إن أفعالنا اللاحقة في أفغانستان وغيرها مبررة نظرا لما قد يحدث للمزيد من الأبرياء لو استمر أعضاء القاعدة بالعيش في ضوء معتقداتهم الشاذة. إن رعب 11 سبتمبر يجب أن يحرّكنا، ليس لأنه يوفر لنا حقدا يجب أن نقتص له، بل لأنه يثبت دون أدنى شك أن بعض المسلمين في القرن الحادي والعشرين يعتقدون حقا في أشد دعائم إيمانهم خطرا ولامعقولية.
إن السياق الأوسع لهذه الفقرة هو تحليل نفسي وفلسفي للإيمان كماكنة للسلوك—وما يربطه بالسلوك هو جوهر هذه المناقشة. لماذا يعد أخلاقيا أن نسقط قنبلة على قادة داعش في هذه اللحظة؟ نظرا لكل الدمار الذي ألحقوه؟ كلا. فقتلهم لن يفعل شيئا لرفع ذلك الدمار. بل يعد أخلاقيا أن نقتل هؤلاء الرجال—من جديد، فقط لو لم نستطع القبض عليهم—نظرا لكل القتل والمعاناة التي يريدون إحداثها في المستقبل. ولماذا يريدون ذلك؟ نظرا لما يعتقدونه عن الكفار، المرتدين، النساء، الجنة، النبوءة، أميركا، وهلم جرا.

يعرف أصلان وغرينوالد أني لا أقترح في أي مكان من أعمالي أن نقتل أشخاصا غير مؤذين لجرائم فكرية. ولكنهم (إلى جانب العديد من زملائهم) يفعلون ما بوسعهم لنشر هذه الكذبة عني. كما أن معظم التعليقات التي أطلقوها حول أعمالي مضللة بنفس القدر.

إن أصلان وغرينوالد يهبطان بحوارنا العام، ويجعلان النقاش النزيه لأفكار مهمة غير مريح بشكل متزايد—بل وخطرا على صعيد شخصي. لماذا يقومان بذلك؟ أرجو أن تسألوهما ومن ينشر لهما.

المصدر: On the Mechanics of Defamation

الأربعاء، أكتوبر 08، 2014

هل يمكن إنقاذ الليبرالية من نفسها؟ -- سام هاريس

بيل ماهر، سام هاريس، و بن أفليك في حلقة 3 أكتوبر 2014
 
لقد أثار تصادمي الأخير مع بن أفليك في برنامج بيل ماهر، Real Time، قدرا كبيرا من الجدل. ويبدو أن تعقيبا نهائيا أمر مستحق.

لمن لم يشاهدوا البرنامج، لن يبدو لمعظم ما أكتبه هنا معنى ما لم تشاهدوا فقرتي هذه:



ما الذي حدث إذن؟

أعترف أني قد فوجئت قليلا بعدائية أفليك. لا أعرف من أين جاء بها، لأننا لم نلتقي قبل مشاركتي في الجلسة. وقد كان واضحا من محادثتنا بعد البرنامج أنه لا اطلاع له مطلقا على عملي. وأشك أن هناك بين ناصحيه أحد المعجبين بغلين غرينوالد، حضّره لهذا الظهور عبر إخباره ببساطة بأني عنصري ومحرض للحرب.

أيا كان السبب، فلو شاهدت الفيديو الكامل لمحادثتنا (الذي يبدأ في الواقع قبل المقطع أعلاه) سترى أن أفليك كان يستهدفني من البداية. أظن أن ما لا يعرفه العديد من المشاهدين هو أن المقابلة في منتصف البرنامج يجب أن تكون محادثة محددة بين خمس وسبع دقائق بين [بيل] ماهر والضيف الجديد—وكل الجلوس يعرفون ذلك. وتجاهل هذا الترتيب والتجاوز على هذه المساحة جلفٌ بعض الشيء؛ أما المقاطعة والانتقاد، كما فعل أفليك، فهي عدائية جدا. لقد حاول أن يسدد ضربته الأولى بعد 90 ثانية فقط من جلوسي، قبل أن يطرح موضوع الإسلام حتى.

رغم أني كنت على علم بأني لم أكن محبوبا من أفليك، فلم أكتشف مدى عدائيته على البرنامج حتى شاهدته على التلفاز في اليوم التالي. لم يكن ذلك بأي حال محادثة عادية بين أغراب. فمثلا: قلت أن الليبرالية تخوننا في شأن الثيوقراطية الإسلامية، وعلق أفليك ساخرا، ”شكرا لله على وجودك!“ (كانت هذه ثاني مقاطعة لمقابلتي.) ثم قلت، ”تصدّر لنا اليوم ميمة الإسلاموفوبيا، التي يساوى فيها كل انتقاد لعقيدة الإسلام بالتعصب تجاه المسلمين كأفراد،“ وقفز أفليك للمرة الثالثة، بنحو جعل مقابلة منتصف البرنامج لاغية عمليا: ”توقف لحظة—هل أنت الشخص الذي يفهم العقيدة الإسلامية المصوغة رسميا؟ هل أنت مفسر لذلك؟“

كما أشار العديد منذئذ، فقد أثبت أفليك ونيكولاس كريستوف نظرتي بسرعة، عبر إساءة فهم كل ما قلته أنا وماهر عن الإسلام بوصفه تعصبا ضد المسلمين. فقد كانت عباراتنا ”مقرفة،“ ”عنصرية،“ ”قبيحة،“ ”كالقول بأنك يهودي مراوغ“ (أفليك)، و ”كاريكاتير“ يملك ”أثرا من طريقة حديث العنصريين البيض عن الأميركيين السود“ (كريستوف).

إن أشد ما قلته إثارة للجدل كان: ”يجب أن نملك القدرة على انتقاد الأفكار الرديئة، والإسلام هو المنبع للأفكار الرديئة.“ وقد لاقت هذه العبارة اتهامات لا تحصى ”بالتعصب“ و ”العنصرية“ على الإنترنت وفي وسائط الإعلام. ولكن تخيل أننا في العام 1970 وأني قلت: ”الشيوعية هي المنبع للأفكار الرديئة.“ هل يعقل أن أهاجم ”كعنصري“ أو شخص يحمل حقدا لاعقلانيا للروس، الأوكرانيين، الصينيين، الخ؟ هذا هو حالي بالضبط. فانتقادي للإسلام انتقاد للاعتقادات وعواقبها—ولكن زملائي الليبراليين يرونه معكوسا كتعبير عن تعصبي تجاه الشعوب.

واستمر التوتر في الجلسة بالتزايد. ففي نقطة ما حاول أفليك مقاطعتي بالقول، ”أوكي، دعه [كريستوف] يتحدث لثانية.“ وحين أنهيت جملتي، لوحّ بيده بنفاد صبر، مشيرا إلى أني كنت أدندن مطولا. وحين شاهدت هذا الحديث على التلفاز (لغة جسده ونبرته أقل وضوحا على النت)، وجدت أن حقد أفليك تجاهي مذهل جدا.

ولكني أودّ إيضاح أمر واحد. فأنا لم آخذ عدائية أفليك بنحو شخصي. فهذا أمر ألاقيه الآن بانتظام عند من يصدقون بالأكاذيب حول عملي التي اختلقها بمواظبةٍ أمثال رضا أصلان، غلين غرينوالد، كريس هيدجز، وآخرون. لو كنت جالسا على طاولة وأمامي شخص ”يعرف“ أني عنصري ومحرض للحرب، فكيف لي أن أتصرف؟ لا أعرف بصراحة.

لقد أثار كريستوف نقطة أن هناك مسلمين شجعانا يخاطرون بحياتهم لإدانة ”التطرف“ في المجتمع المسلم. وهم موجودون بالطبع، وأنا أحتفي بهم. ولكنه بدا غير واعي تماما بأنه كان يثبت نقطتي لأجلي—والنقطة هي، طبعا، أن هؤلاء الناس يخاطرون بحياتهم اليوم إذ ينادون بحقوق الإنسان الأساسية في العالم الإسلامي.

حين قلت لأفليك أنه لم يفهم استدلالي، أجابني، ”لا أفهمه؟ استدلالك هو ’كما تعلم، السود، يطلقون النار على بعضهم، فهم سود!‘“ ماذا توقع مني أن أرد عليه—”شكرا للتصحيح“؟

رغم أني أوضحت أني لا أدعي أن كل المسلمين يلتزمون بالعقائد التي أنتقد؛ مميزا بين الجهاديين، الإسلاميين، المحافظين، وسائر المجتمع المسلم؛ ومبرئا بصراحة مئات ملايين المسلمين الذين لا يأخذون أحكام الكفر، الردة، الجهاد، والشهادة بجدية. ولكن أفليك وكريستوف أكدا أني كنت أهاجم كل المسلمين كمجموعة. لسوء الحظ، فقد أسأت التعبير عند هذه النقطة، قائلا أن مئات ملايين المسلمين لا يأخذون ”إيمانهم“ بجدية. وقد جعل ذلك العديد من الناس يظنون أني أشير للملحدين المسلمين (الذين لا يوجدون بهذه الأعداد بكل تأكيد) وألمح إلى أن الوحيدين القادرين على إصلاح الإيمان هم من تركوه. لا أعرف كم مرة على المرء أن ينكر أنه يشير إلى مجموعة كاملة، أو يقتبس نتائج استطلاع محددة أو يبرر النسب التي يتحدث هو عنها، ولكن لا قدر من التوضيح يبدو كافيا لإحباط تهم التعصب والافتقار ”للتدقيق.“

من الأمور الأشد إحباطا في تداعيات هذه المحادثة هي الطريقة التي يعظم بها أفليك اليوم لفضحه ”العنصرية،“ ”التعصب،“ و ”بغض المسلمين“ عندي وعند ماهر. وهذه علامة أخرى على أن اتهام أحدهم ببساطة بهذه الخطايا، مهما كان لامنطقيا، يكفي لتأسيسها كوقائع في عقول العديد من المشاهدين. ولا ينفع بالتأكيد أن أشخاصا بلا ضمير مثل رضا أصلان وغلين غرينوالد لا يزالون يحرفون المحادثة بهذا النحو.

بالطبع، فإن أفليك أيضا يندد به بشكل واسع بوصفه أبلهاً. ولكن معظم هذا النقد أيضا غير منصف. فإن من يصفونه كمجرد ”ممثل“ خرج عن حد فهمه، ليسوا أفضل ممن يرفضونني ”كعالم أعصاب“ لا يمكنه لهذا أن يعرف أي شيء عن الدين. وأفليك ليس مجرد ممثل: فهو مخرج، منتج، كاتب سيناريو، متبرع خيري، وقد يصبح يوما ما سياسياً. وحتى لو لم يكن إلا ممثلا، فليس ذلك سببا لافتراض أنه ليس ذكيا. في الواقع، فأنا أعتقد أنه ربما *يكون* ذكيا جدا، مما يجعل محادثتنا أشد إحباطا.

النقطة المهمة هي أن الـCV غير مهمة ما دام لكلام صاحبها معنى. ولسوء الحظ، فلم يكن أفليك كذلك—ولا حتى كريستوف، وهو فعلا خبير في هذا الشأن، وخصوصا ما يتعلق بمأساة النساء في العالم النامي. إن فشله في الاعتراف والتقدير لبطولة صديقتي أيان حرسي علي يظل عيبا صحفيا وفضيحة خُلُقية (وقد أخبرته بذلك بعد البرنامج).

بعد البرنامج، اتضحت بضعة أمور عن رؤى أفليك وكريستوف. فبدلا من الوثوق بنتائج الاستطلاعات وشهادات الجهاديين والإسلاميين، فهما يثقان بالشعور الذي يحصلان عليه من عشرات المسلمين الذين يعرفانهم شخصيا. وكوسيلة لقياس رأي المسلمين حول العالم، فهذا التقديم جنوني بلا شك. لكنه مفهوم رغم ذلك. فعلى أساس خبرتهما الحياتية، يعتقدان بأن نجاح جماعة مثل داعش، رغم قدرتها على تجنيد الآلاف من الناس من المجتمعات الحرة، لا يعني شيئا عن دور العقائد الإسلامية في إلهام الجهاد العالمي. وبدل ذلك، فهما يتخيلان أن داعش تمثل ضوء جاذبا للسيكوباثيين—حيث تجذب ”شبابا متمردين“ يرغبون بفعل أشياء رهيبة لشخص ما، في مكان ما، وبأية حال. ولسبب غريب ما فإن هؤلاء الأفراد المضطربين لا يمكنهم مقاومة دعوة للسفر إلى صحراء غريبة كي ينالوا امتياز ضرب أعناق الصحفيين وعمال الإغاثة. وأنا في انتظار بند في [الدليل النفسي] DSM-VI يصف هذه الحالة المقلقة.

خلافا لما يظنه العديد من الليبراليين، فإن الصبية الأشرار الذين يصلون إلى سوريا في هذه اللحظة لمشاركة داعش ليسوا جميعا سيكوباثيين، وليسوا ببساطة أفرادا مكتئبين يذهبون للصحراء كي يموتوا. فمعظمهم تحرّكهم معتقداتهم بعمق. وبعضهم يشعر بالتأكيد بأنه نسخة روحية من جيمس بوند، يخوض حربا كونية ضد الشر. وبعد كل شيء، فهم ينشرون دينهم الحق إلى أطراف الحرب—أو يموتون دون ذلك، ويصبحون شهداء، ويعيشون في الجنة للأبد. ويبدو الليبراليون العلمانيون غير قادرين على فهم كم يمكن لهذه الرؤية أن تكون مجزية نفسيا.

كما حاولت أن أوضح في [كتابي الجديد] الاستيقاظ Waking Up، فالعديد من الحالات الإيجابية للعقل، كالنشوة، محايدة أخلاقيا. بمعنى أن ما يهم فعلا هو ما تظن أن الشعور بالنشوة يعنيه. إن كنت تظن أنه يعني أن خالق الكون يجازيك خيرا على تطهير قريتك من النصارى، فأنت مؤهل لداعش. في حين يذهب شباب ملتحون غيرك إلى [مهرجان] الرجل المحترق Burning Man، محيطين أنفسهم بنساء عاريات مطليّات الأجساد، ويشعرون بحالة عقلية مشابهة.

بعد البرنامج، أكملت أنا، كريستوف، أفليك، وماهر هذه المحادثة. وفي نقطة ما، كرر كريستوف ادعاءه أني وماهر قد فشلنا في الاعتراف بوجود كل المسلمين الصالحين الذين ينددون بداعش، مشيرا للوسم #NotInOurName [ليس باسمنا]. ورددت عليه قائلا: ”نعم، أوافقك أن كل إدانة لداعش أمر جيد. ولكن ما الذي تظنه سيحصل لو أحرقنا نسخة من القرآن في حلقة اليوم؟ ستكون هناك أعمال شغب في عشرات البلدان. ستسقط سفارات. وردا على استهانتنا بكتاب، سيخرج ملايين المسلمين للشوارع، وسنقضي باقي حياتنا ونحن نصدّ عنا تهديدات فعلية بالموت. ولكن حين تصلب داعش الناس، تدفن الأطفال أحياء، وتغتصب وتعذب النساء بالآلاف
وكل ذلك باسم الإسلامفالرد هو بضع مظاهرات صغيرة في أوربا ووسم تويتري.“ ولا أظن من القسوة أن أقول أن أفليك وكريستوف لم تكن لديهما إجابة لمّاحة على ذلك. كما لم يتظاهرا بالتشكيك في حقيقة ما قلته.

أعتقد بصدق أن أفليك وكريستوف يضمران خيرا. فهما قلقان جدا من عداء الغرباء في أميركا ومستقبل المغامرات العسكرية القادمة. ولكن ذهنهما مشوش حول الإسلام. فمثل العديد من الليبراليين العلمانيين، يرفضان القبول بالأدلة الوفيرة على أن أعدادا هائلة من المسلمين يعتقدون بأمور خطرة عن المشركين، الردة، الكفر، الجهاد، والشهادة. ولا يعرفون أن هذه العقائد لا جدال فيها في الإسلام، كقيامة يسوع في المسيحية.

لكن آخرين في هذه المجادلة ليسوا بنفس البراءة. فالسبب في محادثتنا على [برنامج] Real Time كان مقابلة مع رضا أصلان على CNN، وبّخ فيها ماهر على عبارات قالها عن الإسلام في الحلقة الماضية. لقد كنت دوما أعتبر أصلان شخصية هزلية. فأفكاره عن الدين عموما كومة من الهراء المتباهي—رغم أنه يتحدث بنفحة من الثقة ربما تُخجِل جنكيز خان في عز سطوته. ولكن في موضوع الإسلام، فقد بدأ أصلان يظهر شرورا أكثر. لا يمكن أن يعتقد بما يقوله، لأن معظم ما يقوله كذبة أو نصف حقيقة وظفت لتضليل جمهور ليبرالي. فلو ادعى أن شيئا ما ليس في القرآن، فيحتمل أنه هناك. لا أعرف ما هي أجندته، عدا ركوب موجة من ندم البيض بين مقابلة وأخرى، لكنه يتلاعب بالانحيازات الليبرالية بهدف إغلاق المحادثة حول موضوعات مهمة. فوفقا لما يعرفه بالتأكيد عن محتوى القرآن وكذلك الحديث، حالة الرأي العام في العالم الإسلامي، معاناة النساء وسائر المجموعات المستلبة، والتأثيرات الواقعية للاعتقادات الدينية العميقة، فخديعته حول هذه الأمور أمر يأباه الذوق في نظري.

كما حاولت أن أوضح في برنامج ماهر، فما نحتاجه هو محادثة صريحة حول الرابط بين الاعتقاد والسلوك. ولا أحد يعاني عواقب ما يعتقده المسلمون ”المتطرفون“ أكثر من سائر المسلمين. فالحرب الأهلية بين السنة والشيعة، قتل المرتدين، اضطهاد الناس—كل هذه الشرور لا علاقة لها بالقصف الأميركي أو المستوطنات الإسرائيلية. نعم، لقد كانت حرب العراق كارثة—كما يشير أفليك وكريستوف. ولكن دعنا نأخذ لحظة لنتصور مدى كآبة الاعتراف بأن العالم سيكون أفضل لو تركنا صدام حسين في السلطة. لقد كان من أشد البشر شرا على الإطلاق، وأمسك ببلد كامل كرهينة. ولكن استبداده كان حائلا أيضا دون حرب دينية بين السنة والشيعة، مذابح المسيحيين، وسائر الأهوال الطائفية. أن القول بأن الأفضل كان ترك صدام حسين وشأنه، يخبرنا بأمور محبطة جدا عن العالم الإسلامي.

مهما كانت فرص إخراج الإسلام من العصور الوسطى، فالأمل ليس في ظلاميين مثل رضا أصلان، بل في إصلاحيين مثل ماجد نواز. إن محك النزاهة الفكرية في هذه النقطة—الذي يفشل فيه العديد من الليبراليين—هو الاعتراف بأن المرء يمكنه رسم خط مستقيم من عقائد معينة في الإسلام نحو التعصب والعنف الذي نشهده في العالم الإسلامي. ونواز يعترف بذلك. لا أرغب بتقديم انطباع عن أنني وإياه ننظر للإسلام بنفس الشكل. في الواقع، فإننا نخوض الآن مساجلة مكتوبة سننشرها ككتاب إلكتروني في الأشهر القادمة—وأنا أستفيد منه الكثير. ولكن نواز يعترف بأن أفق انتشار التشدد في المجتمع الإسلامي يمثل مشكلة هائلة. وخلافا لأصلان، فهو يؤكد أنه يجب على إخوته في الإسلام أن يجدوا طريقة ما لإعادة تفسير الإيمان وإصلاحه. وهو يعتقد بأن الإسلام يملك الموارد الفكرية لفعل ذلك. وآمل بالتأكيد أنه محق. ولكن أمرا واحدا يتضح: يجب إلزام المسلمين بأن يقوموا بإعادة التفسير—ولهذا فنحن في حاجة للمحادثة الجادة.


المصدر: ?Can Liberalism Be Saved From Itself

السبت، يوليو 26، 2014

قاعدة أسينية في القرآن -- مارك فيلونينكو

تشير السورة 24 [النور] في الآيات 27-31 إلى قواعد مختلفة تتعلق بالأدب بين المؤمنين: كأن لا يدخل أحدهم بيت غيره دون أن يعلن عن نفسه أولا؛ وأن تلتزم النساء بالعفة والخِمار. ثم تعود لنفس الموضوع في الآيات 57 إلى 63. وتتعامل الآية 60 مع مشكلة ذات علاقة، هي الوجبة الجماعية. وهي تقول:
”ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج، ولا على أنفسكم: أن تأكلوا من بيوتكم، أو بيوت آبائكم، أو بيوت أمهاتكم، أو بيوت إخوانكم، أو بيوت أخواتكم، أو بيوت أعمامكم، أو بيوت عماتكم، أو بيوت أخوالكم، أو بيوت خلتكم، أو ما ملكتم مفاتحه، أو صديقكم. ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا…“
وهنا يسمح محمد للمؤمنين بأن يجلسوا على مائدة أقاربهم، أو من تربطهم بهم صداقة. وهذا السماح يتوسع ليشمل الأعمى والأعرج والمريض. ومن الواضح أن هذا الامتداد لا يبدو مناسبا للسياق، من حيث الأسلوب وكذلك المعنى. ولا يحاول المفسرون الأوائل إخفاء خجلهم. فوفقاً للضحّاك، ”كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض، فقال بعضهم: إنما كان بهم التقذر والتقزز. وقال بعضهم: المريض لا يستوفي الطعام، كما يستوفي الصحيح؛ والأعرج المنحبس، لا يستطيع المزاحمة على الطعام؛ والأعمى لا يبصر طيب الطعام، فأنزل الله: أن ليس عليكم حرج في مؤاكلة المريض والأعمى والأعرج.“

ويعترف البيضاوي بأن هذا الوصل الغريب "لا يلائم ما قبله ولا ما بعده". في الواقع، كما يلاحظ بلاشير، وفاقاً لغولدتسيهر، فمن الصعب أن نعتقد أن الأعمى والأعرج كانوا يستثنون من الوجبة الجماعية فقط على أساس إعاقتهم.

ولدينا مزيد، فهذا الاصطلاح النادر ”ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج“ يوجد في سورة أخرى، هي 48 [الفتح]. وفيها يتحدث الرسول مع بعض الأعراب المترددين في المشاركة في غزوة مقاتلة [48: 16]، ”ستُدعَون إلى قوم أولي بأس شديد: تقاتلونهم أو يُسلمون؛ فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسنا، وإن تتولّوا كما تولّيتم من قبل يعذّبكم الله عذاباً أليما.“ ولكن [محمداً] يضيف مباشرة:
”ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج [في امتناعهم عن الذهاب للقتال].“
وهذا التحديد لائق تماما في هذا السياق. فمن الطبيعي كفاية—كما قد يظن المرء—أن العمي والعرج والمرضى، لحقيقة أنهم معاقون، معذورون في عدم المشاركة في المعارك. وسيتفهّم المرء إذن لو اعتبر النقّاد أن ذكر العمي والعرج والمرضى في السورة 24 إنما يأتي من السورة 48. ورغم ذلك، كما أكّد توري، فهناك مشكلة صامدة: كيف للمرء أن يقرر لو كانت هناك إزاحة عفوية أو إدراج مقصود؟

إن الحملة المذكورة في السورة 48 ليست غزيّة عادية، بل هي حلقة من حلقات الحرب المقدسة. ونحن نعرف مكانة هذا المثال الجهادي في الإسلام. ولكن قبل-تاريخه يظل غامضا بعض الشيء. إن مقارنة مع العهد القديم تفرض نفسها علينا، ومع لفائف البحر الميت بشدة أكبر. فلفافة أبناء النور ضد أبناء الظلام تمجد الحرب المقدسة، بشكل لم يعرف من قبل، وتصف بالتفصيل التكتيكات، الأسلحة والقواعد عند جنود الرب المقدسين. وبهذه الطريقة يجد المرء خطة مكتملة للتحرك، وصفات أخلاقية وبدنية محددة لمن يقاتل ومن لا يقاتل. والمجموعة الثانية هي ما يثير اهتمامنا لأقصى حد:
”وأي رجل أعرج أو أعمى أو مشوّه، أو له في جسمه عيب دائم، أو مصاب بنجاسة في جسده، فإن أحدا من هؤلاء لا يذهب معهم إلى القتال.“
إن الإضافة، في تنظيمات الحرب، لمجموعات أخرى من المعاقين إلى هؤلاء العرج والعمي والمقعدين، لا تكفي للتغطية على اكتشاف أدق من أن يكون مجرد صدفة. لقد علم النبي بالتنظيم القمراني. ولا يوجد سبب جيد للاندهاش، ما دام النبي، كما حاولنا أن نثبت في غير مكان، على علم بالتقاليد الأسينية. وينبغي أن نلاحظ من جديد أن النبي قد غير القصد الأصلي من القاعدة القمرانية. فوفقا للنص العبري، يستثنى العمي والعرج والمقعدون بسبب نجاستهم. أما وفقا للنص العربي، فهم معفوّ عنهم نظرا لإعاقتهم.

كما نجد في الدستور الملحق قائمة طويلة من الأشخاص المستثنين من الجماعة:

”ولا يدخلنّ أي شخص أصابته أي من هذه النجاسات الإنسانية في اجتماع الله. وكل شخص أصابته هذه النجاسات، وغير جدير بشغل مركز وسط الرعية، وكل شخص إصابته في جسده، وشلّ بقدميه أو بيديه، أعرج أو أعمى أو أصم أو أبكم أو مصاب في جسمه بعاهة ظاهرة للعينين، أو كل شخص معمر يترنح دون أن يستطيع الوقوف ثابتا وسط الرعية. لأن ملائكة القداسة موجودون في رعيتهم. وإذا كان لدى أحدهم شيء يقوله لمجمع القداسة، فإنه يُستجوَب عندها بمفرده، لكنه لا يدخل وسط الرعية لأنه مصاب.“
وهكذا، فالعمي والعرج والمرضى من كل الأنواع مستثنون من الاجتماع، ولأسباب أهم بكثير من الوجبة الجماعية التي يشار إلى تنظيمها من جديد في الدستور الملحق بعد عدة أسطر. فالعمي والعرج والمقعدون، النجسون وفقا لشرائع سفر اللاويين، سينتهكون الوجبة المقدسة إلى غير رجعة عبر حضورهم. وهذا يفسّر إزاحة جزء من اصطلاح ”ليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج، ولا على المريض حرج“. فهذا الإدراج، الذي ربما كان مؤلفه هو الرسول نفسه، متأصل في الاستعداد لقبول العمي والعرج والمرضى في الوجبة الجماعية. إنه رفض واضح لقاعدة أسينية كان بعض يهود المدينة يريدون، دون شك، أن يروها محترمة.

فمحمد إذن لا يستنسخ ببساطة ودون وعي موقفه من العمي والعرج والمرضى عن الممارسة القمرانية. بل يحافظ عليه في كل ما يخص الحرب، ويرفضه في كل ما يخص الطعام. والسبب في هذا التمييز الدقيق واضح: ففي نظر محمد، يجد العمي والعرج والمرضى أنفسهم، بسبب إعاقتهم، غير قادرين بدنيا على المشاركة في الحرب المقدسة. ولكنهم ليسوا مصابين بنجاسة طقسية: حيث يمكنهم المشاركة في الوجبة الجماعية.

المصدر:

الأربعاء، يناير 01، 2014

فيكتور ستينجر -- الإلحاد الجديد .. ملخصاً


في هذا الكتاب، قمت بالمراجعة والتوسع في الأفكار التي أصبحت مترابطة مع ”الإلحاد الجديد“، كما قدّمته الكتب واسعة الانتشار التي ظهرت بين 2004 و 2009 من تأليف سام هاريس، ريتشارد دوكينز، دانيال س. دينيت، كريستوفر هيتشنز، وأنا. وفيها انفصلنا عن رؤى الملحدين التقليديين في أنحاء عديدة، وكما سنرى أيضا، فقد أضفنا أصواتهم إلى أصوات المؤمنين المحتجّة.
إن فلسفة الملحدين الجدد تتلخص جيدا في عناوين كتبهم وما تحتها. فهاريس يدعو إلى ”نهاية الإيمان“ لأنه من الخطر وغير النافع أن نؤمن دون أدلة. ويرى دوكينز أن الإيمان بالله ”وهم“. ويدعونا دينيت إلى ”كسر تعويذة“ التابوهات المتعلقة بدراسة الدين ومساءلته. كما يكتب هيتشنز حول ”كيف يسمّم الدين كل شيء“، وأدعي أنا ليس فقط أنه لا توجد أدلة على وجود الله، بل أن ”العلم يثبت عدم وجود الله“.
لقد انتقد بعض الملحدين هذه المواقف نظرا لأنها لا تقبل المساومة. فهم يقولون أننا في حاجة للعمل مع الجماعات الدينية ”المعتدلة“ لو شئنا إبعاد الخلقية عن المدارس. والملحدون الجدد حين لا يرغبون أيضا بوجود الخلقية في المدارس، لا يرون فيها مشكة عابرة يمكن معها التغاضي عن الضرر الأكبر في المجتمع الذي ينتج عن التفكير اللاعقلاني المرتبط بالدين. فما دام المؤمنون المعتدلون مستمرين بالدعوة إلى إيمان بلا سند واضح، يدّعي أن الوحي الإلهي مصدر للمعرفة، فإنهم بذلك يشجّعون العناصر المتطرفة في ذلك الإيمان على التصرف بحرّية في ارتكاب أي فعل رهيب، معتقدين أنهم بذلك ينفّذون إرادة الله.
يتّهم النقاد المؤمنون الجدد الملحدين ’بالعلموية‘، وهي المبدأ القائل بأن العلم هو الوسيلة الوحيدة التي يمكننا بفضلها التعلم عن العالم والإنسانية. ولكنهم لن يستطيعوا اقتباس أي ملحد جديد ادّعى ذلك. فنحن نعترف تماما بقيمة مجالات الفكر والنشاط الأخرى ونشترك فيها، كالفن، الموسيقى، الأدب، الشعر، والفلسفة الخُلُقية. وفي نفس الوقت، حين يتعلق الأمر بالظواهر المشاهَدة، فنحن نصرّ على أن يكون للمنهج العلمي دور مناسب. وذلك يتضمن التساؤلات عن الفوق طبيعي ووجود أي إله يساهم بنشاط في شؤون الكون.
كما يحاول المؤمنون الاحتجاج بأن العلم يعمل وفق الإيمان لا أقل من الدين، بافتراض أن العلم والعقل ينطبقان على العالم. وذلك إنما يفضح جهلا بالعلم يتفشى في أوساط المؤمنين واللاهوتيين. فالإيمان هو الاعتقاد في غياب الأدلة، والعلم هو الاعتقاد في ظل الأدلة. وحين يختلف الدليل مع فرضية علمية، تسقط الفرضية، أما حين يتعارض الدليل مع فرضية دينية، فالدليل يسقط.
وكذلك يسيء المؤمنون فهم استخدام العقل: حيث يقولون أنه ليس بإمكانك إثبات أن الكون معقول دون الوقوع في استدلال دائري، مفترضين أن ذلك هو ما تريد إثباته. وإن كان، فاستدلالهم دائري أيضا، لأنهم يستخدمون العقل فيه. ولكن ما هكذا تجري الأمور: فالحال ليس أن الكون معقول أو لا. بل أن الناس عقلانيون أو لا. فالعقل والمنطق ليسا سوى طرق للتفكير والكلام تم تصميمها للتأكد من أن الفكرة متسقة مع نفسها ومع البيانات. فكيف تتوقع أن تفهم أي شيء من تفكير وكلام غير عقلاني ولا متناسق؟
في هذا الصدد، أود التأكيد على أن نزاعنا مع المؤمنين فكري صرف. ولا أرى ما يمنع أن يتم بكل تحضر. كثيرا ما نتّهم بالاشتراك في ”سجالات“ ضد الدين، ولكن القاموس لديّ يعرّف السجال بأنه ”استدلال مفعم بالعواطف“. فما المشكلة في أن يكون المرء مفعما بالعواطف تجاه استدلالاته؟ فالمؤمنون يحملون نفس العواطف تجاه استدلالاتهم. إننا لا نرى بأسا في سؤال المؤمنين أن يقدّموا أدلة وبراهين عقلانية على إيمانهم، بدلا من الحفاظ على الهدوء كما يفعل العديد من أصدقائنا الملحدين واللاأدريين خوفا من إهانة ”عقائد معتنقة بعمق“. فلماذا تتم تخطئتنا على استحضارنا الحقائق التاريخية حول الفظائع التي ارتكبت باسم الله؟ وكذلك فلدينا كباحثين مطلق الحق في الإشارة إلى التناقضات والأخطاء الصريحة في النصوص المقدسة، وفي وصف اللقى التاريخية والآثارية التي تثبت بما لا يقبل الشك أن أحداثا مثل خروج بني إسرائيل لم تحدث قط، وأن يسوع الذي يصفه العهد الجديد هو إلى حد كبير، إن لم يكن بالكامل، شخص أسطوري. إننا لا نحاول هنا إغلاق المؤسسات الدينية، ولكن يحق لنا كمواطنين أن نعترض على التوزيع غير القانوني أو الدستوري لأموال دافعي الضرائب على تلك المؤسسات، إضافة لسائر الامتيازات الخاصة التي يهبها لهم السياسيون الجبناء. كما نحس أن مهمتنا تتمثل بالاحتجاج حين يستند مسؤولون في الحكومة على الخرافة بدلا من العلم في صنع القرارات التي تؤثر في حياة الجميع على هذ الكوكب.
لقد قمت بالاستفاضة في الموقف العلمي للإلحاد الجديد، الذي يعتقد أن نموذجا ماديا بالكامل عن الكون يوفر تفسيرا مقبولا لكل مشاهداتنا، من الكونيات وحتى العقل البشري، دون أن يترك أي فجوة يحشر فيها الله أو الفوق طبيعي.
يعتقد المؤمنون أن لديهم ثغرة لإدخال الله، يوفرها الانفجار الكبير الذي يتطلب خلقا فوق طبيعي. وقد أظهرتُ كيف أن هذا الزعم يقوم على فكرة خاطئة هي أن الكون لا بد أن تكون له بداية ذات كثافة لا نهاية وحجم شديد الضآلة تدعى ’بالتفرّدية‘. وهم يفسرون هذه التفردية خطأ على أنها بداية الزمان والمكان.
كان ستيفن هوكينغ من بين مؤلفي ”البرهان“ الأصلي قبل ثلاثة عقود على أن تفردية كهذه هي نتيجة لنظرية آينشتاين في النسبية العامة. ولكنه قبل عقدين، في كتابه الشهير ”تاريخ موجز للزمن“، فصّل أن الحساب الأصلي لم يأخذ ميكانيك الكم بالحسبان، وأنه حين يتم ذلك لن تحدث التفردية.
حتى في أحدث كتبهم ومحاضراتهم، يستمر المؤمنون بتجاهل هوكينغ وتمرير هذا الخطأ. ولا يبدو أنهم يهتمون لأن جمهورهم عموما ليسوا على قدر كافي من التعقيد الفكري لاستيعاب ذلك. ربما لم تكن للكون بداية: ففي أحد السيناريوهات المقبولة التي يمكن اشتقاقها رياضيا بالكامل، ظهر كوننا عن كون آخر سابق كان موجودا دوما، عبر عملية مفهومة جيدا تعرف بالنفقية الكمية.
نفس سوء الفهم أو التجاهل هذا للحقائق العلمية ينطبق على زعم إيماني آخر، هو أن الكون مولّف بدقة للحياة بحيث لا يمكن إلا لكائن ذكي أن يخلقه. حتى ألمع زملائي في الإلحاد الجديد يجدون مشكلة مع هذا الزعم لأنهم ليسوا فيزيائيين. في هذا الكتاب وما سبقه، حاولت أن أشرح أسباب فشل الاحتجاج بالتوليف الدقيق. إن معايير الكون ليست مولفة بدقة على الإطلاق. فهي إما تمتلك القيم التي لديها نظرا لأنها اعتباطية من الأصل، أو مثبتة بفضل قوانين الفيزياء، وإلا فهي تسمح ببعض أشكال الحياة حين تتغير المعايير الأخرى. أحد الأخطاء التي يقع فيها غير المؤهلين في زعمهم التوليف الدقيق هو تثبيتهم لكل المعايير إلا واحدا والتلاعب به وحده. وكل عالم حسن التدريب يعرف أن كل المعاملات يجب أن تتغير خلال دراسة ما يجري عند تغير معاملات النظام.
إن حركة التصميم الذكي في البيولوجيا تتجه نحو موت طبيعي، رغم أننا سنسمع منها بضع شهقات الموت قبل دفنها النهائي. أما التصميم الذكي في الكونيات فيستحق الموت فعلا، وأنا متعب من توجيه السهام نحوه. والمساحة الجديدة التي يحاول فيها المؤمنون تحديد موقف هي العقل. فهم يظنون أن بإمكانهم العثور على ثغرة تناسب الله في حقيقة أن علم الأعصاب لم يصل بعد إلى إجماع بخصوص نموذج مادي صرف لعمليات الدماغ التي ترتبط بالتفكير والوعي. ولكننا قد رأينا أن كل الأدلة تشير إلى العقل كظاهرة مادية صرف وأن الاعتراضات المشروعة على هذا الاستنتاج هي إما لاهوتية أو فلسفية. أما ادعاءات الأدلة على قوى خاصة للدماغ، كالإدراك فوق الحسي ESP، فلا تصمد أمام تطبيق نفس المعايير الصارمة المتبعة في تقييم أي ادعاء غير اعتيادي في العلم.
لقد قدمت أمثلة على الفظائع في الكتاب المقدس والتي اقترفها الدين عبر العصور. وقضيت بعض الوقت مع المورمون لأنهم يمثلون طائفة تشكلت في وقت قريب بما يكفي لتوافر بيانات تاريخية موثوقة نخرج منها باستنتاجات حول سبب التلازم بين الدين والعنف كما بين الحصان والعربة. أحب الأجوبة البسيطة، والجواب على ذلك بسيط: فالمرء قادر على نحر حنجرة رضيع إن كان مقتنعا بأنه يؤدي أوامر الله.
كما قمت بالرد على بعض انتقادات الملحدين الجدد، وخصوصا تلك الموجهة ضد سام هاريس وكريستوفر هيتشنز، الذين يرميان باللائمة في 9/11 وسائر الأعمال الإرهابية تحديدا على الدين وليس كنتيجة وحيدة للقمع السياسي. وكما رأينا في الفصل الخامس، فإن التعليمات الأخيرة التي أعطاها محمد عطا لفريقه لا تترك مجالا للريب: فالإسلام هو ما دفع بتلك الطائرات في تلك المباني.
تحاول العديد من الكتب الإيمانية التي تنتقد الملحدين الجدد أن تحتج بأن ”ملحدين“ مثل ستالين وهتلر قتلوا من البشر أكثر من كل ملوك العالم المسيحي، والحملات الصليبية، ومحاكم التفتيش جميعا. وهذه القضية واهية من عدة جبهات. فأولا، لا يوجد كتاب مقدس إلحادي يأمر الناس بأن يقتلوا الناس باسم الإلحاد، كما يشرّع الكتاب المقدس والقرآن لقتل الكفار. وثانيا، فإن هتلر لم يكن ملحدا. وثالثا، فلو لم يكن هناك دين، لما كانت هناك جماعة منفصلة مبغوضة كاليهود الذين تمت ملاحقتهم عبر القرون لأنهم ”قتلة المسيح“. ورابعا، فإن مستندات كشفت حديثا عن الحقبة السوفياتية تثبت أن ستالين لم يقتل باسم الإلحاد، بل قام في الواقع بتطبيع العلاقات مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية خلال الحرب العالمية الثانية. وكثيرا ما تعاونت الكنائس مع الحكومات، مهما بلغت قسوتها، عن قرب بهدف قمع المعارضة، حيث تعاونت الكنيسة الكاثوليكية مع النازيين؛ وساعدت الأرثوذكسية الروسية على بقاء القياصرة في الحكم، واستمر حكام روسيا السوفياتية والمعاصرة في الاستفادة منها في هذا الصدد.
إن المرء لا يقيس الشر بأعداد القتلى. فهل قتل عشرة أبرياء أسوأ من قتل واحد؟ كل ملك، بابا، صليبي أو مفتش قتل شخص واحدا بظلم يعد مقترفا للشر. وكما يسجل التاريخ فقد قُتِل من البشر باسم الدين أكثر بأضعاف ممن قتلوا باسم الكُفر.
لقد قضيت بعض الوقت في تلخيص استنتاجات الباحث الكتابي بارت إيرمان، الذي بعد أن خدم كوكيل بروتستنتي تخلى عن إيمانه حين وجد أن الكتاب المقدس والتعاليم المسيحية تفشل في تفسير المعاناة في العالم. لا شيء من الأجوبة الكتابية ينفع. فقد علّم الأنبياء أن المعاناة هي عقاب الله على العصيان. ولكن حتى الطائعون يعانون، كما تشهد بذلك قصة أيوب. إن ادعاء أن المعاناة هي بما كسبت أيدي الناس، الذين مكّنتهم من ذلك الإرادة الحرة، يفشل في تفسير المعاناة من الظواهر الطبيعية. فكرة أخرى هي أن المعاناة إحدى أبواب التوبة، التي تأتي بالخير في محل الشر. ولكن أي خير قد يأتي من الأطفال الكثر الذين يموتون من المجاعة كل يوم؟ وفي الختام، فإن الكتاب المقدس يعد بأن المعاناة والموت سينتهيان حين يعود يسوع في يوم الدين الأخير. وقد وعدنا يسوع بأن ذلك سيحصل خلال جيل، لكنه لم يتحقق حتى الآن.
كما راجعت باختصار الأجوبة التي قدمتها سائر الأديان، عدا المسيحية، على المعاناة. ففي الإسلام، تعتبر من إرادة الله التي لا يُسأل عنها. والهندوس يرون أن المعاناة تختفي في حياة قادمة. والبوذا يعلم طريقا ثمانيا لإنهاء معاناة الفرد، الذي ينبع من فناء الذات حين تنتهي سلسلة حيوات المرء بالعدم. كما تعلم الطاوية التوقف عن حب الذات واستبداله بحب العالم.
لقد اقترح سام هاريس في نهاية الإيمان أن نلقي الانتباه إلى بعض بصائر البوذا وسائر الروحانيين والباطنيين الشرقيين لمساعدتنا على فهم عقولنا. وقد كتبت المؤرخة الدينية كارين آرمسترونغ حول الفترة بين 900 ق.م و 200 ق.م، التي وصلت الذروة عند حوالي 500 ق.م، حيث حصل تحول جسيم في التفكير البشري. ولم تتكرر ثورة مماثلة في التفكير البشري إلا بين 1600-1700 م مع ارتقاء العلم والعقل في الغرب. تسمّى تلك الفترة السابقة بالعصر المحوري وتتميز باتجاه المفكرين في الهند والصين نحو الباطن وبحثهم عن الحقائق داخل أنفسهم عبر تخلية عقولهم وتحرير أنفسهم من عبودية الأنا. كما تصف آرمسترونغ تحولات في التفكير حدثت في اليونان وأرض إسرائيل، لكنها قادت إلى اتجاهين مختلفين.
المثير للانتباه أن الحكماء الأهم: بوذا، لاو تزو، وكونفوشيوس، كلهم عاشوا عند حوالي 500 ق.م. كما يفترض أن ثاليس الملطي، وهو أول عالم في التاريخ المدوّن، توقع كسوف الشمس الذي حصل في 29 مايو 585 ق.م، مقتدحا زناد العصر المحوري اليوناني. ورغم أن هذا الحدث محل نزاع، فالعلم اليوناني إنما بدأ مع ثاليس. ومن المصادفات أن اليهود قد سيقوا للسبي إلى بابل قرابة عام 585 ق.م، مما قاد إلى عصر محوري يهودي.
وفي حين أن قلة من المتألهين في الأديان الإبراهيمية علّموا أيضا فضائل نفي الذات، فإن ما قاد السواد الأعظم من معتنقي تلك الأديان كان التفكير شديد الأنويّة. ومع أن الأمر أقل حدة في اليهودية، فإن المسيحية والإسلام لم يصبحا أهم دينين في العالم إلا لسبب واحد: الوعد بالحياة الأبدية.
لا يمكن للإلحاد أن يتنافس مع هذا الوعد. فنحن لن نحصل على متحول واحد لو وعدناه بالعدم بدلا من الفردوس (أما الجحيم فينذَر به الآخرون). وكذلك فلو كنت ملحدا بالفعل وترى في الفردوس حلما مستحيلا كما هو بالفعل، فأنت في حاجة لطريقة تواجه بها العدم. لقد أشار الحكماء العظام لهذا الطريق، ولو استأصلنا الركام الفوق طبيعي والخرافات التي راكمتها الأديان التي تأسست فوقها خلال الـ25 قرنا الأخيرة، سيكون لدينا ما نسمّيه بالطريق الطبيعي: فنحن كائنات طبيعية مادية، ذات أدمغة طبيعية مادية استطاعت التطور، بأي طريقة كانت، لإعطائنا شعورا متساميا بالذات.
يؤكد المؤمنون أن الدين ضروري من أجل مجتمع أخلاقي، وأن الأخلاق إنما تأتي من الله، وأنه في مجتمع إلحادي سيتواثب الجميع كالوحوش. ومن المؤكد أن هذا ليس وليد الوقائع، التي تشير إلى أن المشاكل مع الجريمة، العنف ضد الأطفال والأزواج، الحمل عند المراهقات، إدمان العقاقير، وسائر العلل الاجتماعية إنما تقلّ في المجتمعات الأقل تديّنا. والأدلة متضافرة على أن المجتمعات الأسعد، الأصح، والأفضل تكيفا في العالم هي تلك التي تحررت فيها الأكثرية من الإيمان بالله.
وفي حين لا يزال الباحثون يناقشون الآليات، فمن المرجح جدا أن الأخلاق تطورت طبيعيا في المجتمع ولم يتم تبنّيها إلا لاحقا، وبشكل منقوص، في الدين. تعتبر العديد من التعاليم الكتابية، مثل دعم العبودية وإخضاع النساء، لاأخلاقية بالمعايير الحديثة. وتكشف هذه الأمثلة أيضا أن القيم ليست ثابتة وإنما تتطور مع الزمن.
أي قيم معينة إذن يقترح الإلحاد الجديد أن تعيش وفقها؟ ليست مختلفة أبدا عن تلك القيم المرتبطة بالإنسانوية والعقلانية الفلسفية عموما. يمكنك أن تجدها في وفرة من الأدبيات، لاسيما الأعمال العديدة لبرتراند راسل. ومن بين الملخصات الحديثة: فلسفة الإنسانوية لكورليس لامونت، اليوبراكسوفيا لبول كيرتز، كيف تحيا لبيتر سينغر، والقيمة والفضيلة في كون ملحد لإريك ج. ويلنبرغ. ويقدّم المؤلف الأخير هذه الفكرة:
إن الانتصار في القبول بالطبيعية يتمثل في فرض السيطرة على عقل المرء ذاته. ففي كون تخضع فيه البشرية إلى حد كبير لقوى لامبالية أخلاقيا خارج نطاق سيطرتها، يتمثل أحد أبرز أنواع الإنجاز في فرض السيطرة. وفي الحالة الخاصة للقبول بالطبيعية، فإن الانتصار هنا هو على الخوف.  فالمؤمن الديني مدفوع بالخوف؛ وبهذا الشكل، فإن عقل المؤمن، وكذلك جسده، معرّض لقوى تتجاوز نطاق سيطرته. ولكن الطبيعي يتولى السيطرة على عقله، ويرفض أن يسود عليه الخوف؛ هذا الانتصار على الكون هو إنجازٌ هام بذاته وفي ذاته.
لقد أسيئ فهم رسالة الإلحاد الجديد بشكل رهيب باعتبارها سلبية حصرا. ولكن لكل جانب سلبي هناك وجه إيجابي أكبر منه. فالإيمان سخيف وخطر، ونحن نطمح إلى اليوم الذي، مهما بعُد، يتخلى فيه الجنس البشري عنه. والعقل بديل نبيل عن ذلك، ويشهد له نجاحه. إن الدين مرض فكري وأخلاقي لا يمكنه الاستمرار للأبد إن كنا إطلاقا على ثقة في التقدم البشري. فالعلم لا يرى حدا لقابلية البشر على فهم الكون وذواتهم. الله غير موجود، والحياة من دونه تعني أننا الحاكمون على مصائرنا.
إن كنت مؤمنا بالله أو بشيء آخر، اخلع عنك النير وانضمّ إلينا. إن كنت لاأدريا، انظر إلى الأدلة وسترى أننا بالفعل نعرف أن الله غير موجود، وشاركنا. إن كنت ملحدا وتعتقد أن بإمكاننا العمل مع المؤمنين المعتدلين، فتمعّن في نتائج الفكر اللاعقلاني وتابعنا.