الجمعة، ديسمبر 20، 2013

موجز النزاعات بين الدين والعلم -- فيكتور ستينجر

  • طبيعة الواقع
كل الأديان، بما فيها البوذية، تعلّم عن وجود واقع يتجاوز ويتعالى على العالم المادي الذي يكشف نفسه لحواسّنا وأجهزتنا العلمية، واقع يمكننا التوصل إليه بطرق فوق حسية. ورغم أن العلم مستعد للنظر في أي أدلة تظهر، فلم يظهر لحد الآن أي دليل يتطلب إضافة أي كائن غير مادي إلى النماذج التي تصف المشاهدات. وبالمثل، فلم يتم التحقق موضوعيا من أي معلومة تحصّلت بطرق فوق حسية.
في هذا الصدد، كثيرا ما يقال بأن العلم لا يملك ما يقوله عن الفوق طبيعي. ولكن هذا خطأ: فلو كان الفوق طبيعي موجودا وله تأثير على العالم المادي، فإن هذه التأثيرات ستخضع للدراسة العلمية.
  • نشأة الكون
تعدّ فكرة الخلق الإلهي أساسية في معظم الأديان. وفي وقت ما بدا من المستحيل أن يظهر الكون للوجود بشكل طبيعي. وقد رأى المسيحيون [وكذلك المسلمون] في نجاح نموذج الانفجار الكبير دعما مضافا لقصة الخلق التوراتية. إذ يبدو على الأقل أنه قد أثبت أن للكون بداية وهذا يؤدي، حسب تفكيرهم، إلى أن علة هذه البداية لن يكون غير الله الخالق.
ولكن الكونيات الحديثة ثبّطت من هذا الأمل إلى حد بعيد، فقد اتضح لاحقا أن الانفجار الكبير لا يحتاج لأن يكون بداية للزمان والمكان وأن الكون ربما يكون أزليا، أو أقله يمكن إثبات خطأ المزاعم اللاهوتية بأن الكون الأزلي مستحيل رياضيا. واليوم يبدو من المعقول، بل والمرجح، أن كوننا ليس سوى واحد بين عدد غير محدود من الأكوان الأخرى. وقد تم نشر العديد من السيناريوهات المعقولة للنشأة الطبيعية لكوننا من قبل باحثين مرموقين. وهذا يكفي لتفنيد أي زعم بأن المنشأ الإعجازي ضروري.
وكما هو الحال مع كل الآراء العلمية، فهذه الاستنتاجات تظل مؤقتة. ومع أنها لا تتناقض بشكل مباشر مع وجود خالق، فالعلم لا يرى حاجة إليه في حين لا يحيا الدين بدونه.
  • التوليف الدقيق
يجادل اللاهوتيون بأن معاملات الفيزياء دقيقة التوازن إلى درجة أن أي تغيير ضئيل في قيمها سيؤدي لاستحالة الحياة. ولهذا، فلا بد من أن الخالق هو من قام بتوليف هذه المعاملات بدقة بحيث يمكن لنا، ولشكل الحياة خاصتنا، أن نتطور.
يمكن تفنيد هذا الزعم على عدة صُعُد. والتفسير الأشهر بين علماء الفيزياء والكونيات هو أن هناك عدة أكوان، وأننا نعيش في الكون الذي يناسبنا.
ولكن حتى لو لم يوجد كون غير كوننا هذا، فيمكن العثور على تفسيرات ملائمة في معرفتنا الحاضرة لقيم هذه المعاملات الأهم. كما يمكن إثبات أن للأخريات مدى من القيم يجعل بعض أشكال الحياة ممكنا.
  • الاحتجاج بالتصميم
جادل المفكرون عبر قرون طويلة بأن النظام الذي نشاهده من حولنا هو دليل على التصميم الإلهي في الكون. ولكن شخصية (فيلو) في كتاب ديفيد هيوم ”محاورات حول الدين الطبيعي“ (1779)، عدّد نقاط الخلل في  هذا الاحتجاج. وبكل بساطة، فإن الكون لا يبدو مصمما على يد إله كامل خير، فهو يزخر بالنقصان ويفيض بالشر والمعاناة.
تدّعي حركة التصميم الذكي المعاصرة أن التراكيب المعقدة تتطلب معمارا وبناء، وأن العمليات الطبيعية تعجز عن توليد معلومات جديدة. وهم بذلك يطبقون قانونا خاطئا عن ”حفظ المعلومات“. فالمعلومات تكافئ الإنتروبيا السالبة، والإنتروبيا لا تخضع لقانون الحفظ. إضافة إلى أن تولّد النظم المعقدة من البسيطة يمكن مشاهدته في مواقف فيزيائية عديدة، كما في تحولات الحالة التي تتم بشكل طبيعي من الغاز إلى السائل ثم إلى الصلب في غياب الطاقة الخارجية.
  • التطوُّر
تعد الحياة على الأرض خير مثال على التعقيد الطبيعي. وقد أظهر التطور الدارويني كيف تطورت، خلال بلايين السنين، كل الأنواع الموجودة من أشكال أبسط عبر عملية التطفّر بالصدفة والانتقاء الطبيعي. يثبت لنا التطور كيف يمكن للبساطة أن تتطور نحو التعقيد، رغم أنها لا تتطلبه.
أكثر من 50% من الأميركان يقولون بصراحة أنهم لا يؤمنون بالتطور. وفي حين يرفض البروتستانت الأصوليون القبولَ بالتطور بسبب تناقضه الصريح مع الكتاب المقدس، فإن الكاثوليك والبروتستانت المعتدلين يدّعون أنهم يعترفون بالتطور ولا يرون فيه ما يناقض إيمانهم. ولكن الاستبيانات تكشف أنه لا يوجد في الواقع مسيحيون يقبلون بنظرية التطور كما تفهمها البيولوجيا الحديثة. فهم يصرّون على أن يد الله توجّه التطور، في حين لا يؤدي الله دورا في النظرية التطورية المتعارفة. بل إن آلية التطور تتمثل تحديدا بالتنوع غير الموجه زائدا الانتقاء الطبيعي، وهو ما يفسر التعقيد والتنوع الحيوي الذي نشاهده، والغياب الواضح للهدف الخير بل مطلق الهدف.
لقد حُكِم على محاولات تدريس الخلقية في الولايات المتحدة تحت قناع ”علم الخليقة“ أو ”التصميم الذكي“ في المحاكم الفيدرالية بأنها انتهاك لدستور الولايات المتحدة، لأنها تمتلك دافعا واضحا لدعم الدين. ولكن 17% من مدرّسي البيولوجيا في الثانويات لا يغطّون التطور و 60% ينفقون أقل من خمسة ساعات على موضوع يمثل أساس البيولوجيا الحديثة. وهنا لا يمكن لتأثير الدين السلبي على العلم أن يكون أشد وضوحا.
  • الوعي الكمي والكون الكلاني
منذ الـ1970ـات، كان دعاة ’العصر الجديد‘ وأنصار الظواهر الخارقة يدّعون أن ميكانيك الكم تدل على أن الوعي البشري يمكنه التأثير في الواقع، ليس الآن وهنا فقط بل في كل مكان وأوان ضمن الزمكان، ماضيا ومستقبلا. وهذا يعني أن الكون هو كل ٌّ واحد موحد يضبّط فيه العقل البشري ضمن ”وعي كوني“.
وهذه الفكرة الجامحة لا تدعمها الأدلة التجريبية ولا النظرية الكمية نفسها، كما يفهمها الخبراء.
وكذلك فإن ادّعاء المؤمنين أن الفيزياء الحديثة قد هدّت أسس المادية، وأنها تشير إلى كون كلاّني، لا تدعمه الحقائق أيضا. فالنموذج القياسي للجسيمات والقوى، الذي يقوم على النسبية وميكانيك الكم، هو مادي اختزالي بالكامل.
  • الاختزالية والبزوغ
منذ أيام الذرّيين الإغريق وعبر الميكانيك النيوتني وحتى النموذج القياسي الحالي للجسيمات والقوى، كانت الفيزياء اختزالية دوما—تختزل كل شيء إلى مجموع أجزائه. فعالَم الفيزياء ذو ترتيب هرمي، يبدأ بالجسيمات الأساسية فالذرات فالجزيئات وهكذا، وصولا للعقل، فالمجتمعات البشرية، وهكذا وصولا إلى الكون. وفي كل مستوى تُكتَشَف مبادئ جديدة لا يمكن عموما أن تشتق من فيزياء الجسيمات. ويقال أن هذه المبادئ الجديدة ”تبزغ“ من المستويات الأولى.
إن الحكمة الشائعة حول هذه العملية هي أن ”السهم السببي“ يظل مشيرا للأعلى منذ أوطأ مستويات الجسيمات. ولكن اللاهوتيين وبعض العلماء يحدسون أن هناك ”سهما سببيا“ آخر يشير للأسفل بحيث يمكن للمبادئ البازغة أن تؤثر في سلوك كيانات من مستوى أدنى. ومن ثم يتصورون الله على أنه المبدأ البازغ الأعظم، الذي يتصرف في عالم المادة والعقل.
ولكن الأمثلة التي يقدّمونها تتسم بالسطحية، كمثال المضغاط في اسطوانة غاز الذي يحرّك ذرات الغاز. فالذرات في المضغاط ببساطة تحرك الذرات في الغاز عبر تصادمات جسيمية بطريقة اختزالية بالكامل. كما يمكن إثبات أن بعض المبادئ البازغة، كمبادئ الثرموديناميك، ديناميك الموائع، ونظرية الشواش، يمكن في الواقع اشتقاقها من فيزياء الجسيمات. فهي جسيمات طول الطريق للأعلى والأسفل أيضا.
  • لاهوت المعلومات
بعد الثورة العلمية في القرن ال17، أصبحت الماكنة أو تروس الساعة أشهر مجاز عن الكون، الذي يعمل بشكل جبري، وفق قوانين الميكانيك النيوتني، ولكن بعد أن قام مبدأ اللايقين والثورة الكمية بإسقاط الجبرية، أعلن العديد من المؤلفين ”نهاية المادية“ في مساواة غير منطقية بين المادة والماكنة. ومع فجر عصر الحواسيب، أصبح ‘العالم كحاسوب‘ وخصوصا كحاسوب كمي، هو المجاز الجديد حول الطبيعة.
لقد اقترح بعض المؤلفين أن المادة الحقيقية التي يعمل بها الحاسوب ليست هي المادة matter بل المعلومات. وقد قفز اللاهوتيون على عربة ’مضاد المادة‘، ولكن تصادمها مع المادة ضمن النموذج القياسي لا ينتج ضوءا كافيا. فحتى الحواسيب الكمية تتكون من مادة، وإن حاسوبا كميا كونيا يتركب من جسيمات أساسية يبدو أن يوفر مجازا مفيدا لكيفية تطور الكون المعقد الذي نعيش فيه، بشكل طبيعي خلال 13,7 بليون سنة من بقعة أصلية من الفوضى تمتلك أقل حد من المعلومات.
  • الإرادة الحرة، الأخلاق، والعدالة
عادة ما يفترض أنه إن كان العقل ظاهرة مادية بالكامل، فليس للبشر أي إرادة حرة. وهذا بالطبع يحيل العقيدة الدينية الأساسية عن الخطيئة والتوبة إلى حطام. ورغم ذلك، فبالإمكان تصور نوع من الإرادة الحرة بما أن قراراتنا الفردية تظل قائمة على تجارب حياة واحدة، تختصّ كلاً منا بشكل فريد.
يفترض المؤمنون بإله، دون تردد، أنه مصدر الأخلاق وأن المجتمع سيكون خبيثا، منحرفا، فاسدا ومتهتكا ما لم يقم الله بدعم تقواهم. وهذا يتناقض تماما مع الحقيقة المشاهدة: أن الأكثرية الساحقة من غير المؤمنين ليسوا خبثاء، منحرفين، فاسدين أو متهتكين، في حين أن نسبة لا تهمل من المؤمنين هم كذلك.
يمكننا جميعا أن نرى أن العالم ليس مكانا عادلا، فالأشرار كثيرا ما يزدهرون في حين يكدح الأخيار. وإن كان المرء مؤمنا بالعدالة اللانهائية، فإن عدالة كهذه لن تجيء إلا في الحياة الآخرة. ولسوء الحظ، لا يوجد لدينا سبب للإيمان بعدالة نهائية إلا أمانينا النقية.
إن الأصول الطبيعية للأخلاق هي اليوم مساحة واسعة للدراسة، ويتوفر حولها اليوم تنويعة طيبة من الأدبيات. وفي حين يقترح بعض المؤلفين نماذج تطورية، تقودنا أسباب مقنعة للاعتقاد بأن البيولوجيا البشرية تمر اليوم بمرحة بعد-تطورية، يمكننا فيها استخدام قدراتنا الفكرية لتطوير قوانين للسلوك تهدف لتعظيم الرفاه لدى الجميع. أما النماذج التي لم تحقق ذلك تماما فمكانها إلى جانب الدين، بكل إصراره على شرائع خُلُقية عتيقة طُوِّرت في مجتمعات بدائية. ربما كان لها غرض ذات يوم، ولكن ليس الآن بالتأكيد.
  • اللاهوت الحداثي
في حين يظل جمهور المؤمنين الدينيين متمسكين بالأفكار التقليدية عن الله بوصفه حاكم الكون، يسعى اللاهوتيون الحداثيون خلف نماذج مختلفة عن الله هي أكثر اتساقا من النتائج العلمية في التطور والكونيات والآثار، إضافة لسائر التطورات في الفلسفة واللاهوت.
فقد هاجم البعض مشكلة الفعل الإلهي في ضوء غياب الأدلة على المعجزات التي قد يتوقع أن تظهر بين حين وآخر كنتيجة لتلك الأفعال. ولكن محاولات استغلال ميكانيك الكم ونظرية الشواش لتوفير وسيلة يتصرف عبرها الله في العالم دون أن يتم اكتشافه لم توصل لنتائج مُرضية، خصوصا وأن هذا المنظور يبدو أنه يقودنا إلى نوع جديد من الإله الربوبي، إله يلعب النرد مع الكون. ومهما حاول اللاهوتيون المسيحيون، فلن يستطيعوا التوفيق بين هذا النموذج والتعاليم المسيحية التقليدية. وإضافة لذلك، فلماذا يرغب إله لطيف في أن يختفي عن مخلوقاته بحيث لا ينال أبدية من النعيم إلا ذوو الذكاء المحدود الذين يؤمنون دون تساؤل؟
رؤية أخرى يقودها اللاهوتيون البروتستنت الليبراليون هي أن الله يجب أن لا يعتبر كائنا فوق طبيعي خارج الزمان والمكان، بل كائنا موجودا في كل مكان وكل من الزمان والمكان. وهم يدّعون أن الطرق التي توصلوا بها إلى هذا النموذج تشبه إلى حد لصيق المنهج العلمي. وبالخصوص، فهذا النموذج يقوم على البيانات، وهي هنا التجربة البشرية، والنظرية، وهي تفسير هذه البيانات. ولكن، إن كانت الحال هذه، فهذا الإجراء يختلف عن المنهج العلمي في أنها كلما خضع للاختبار، كما في تجارب الدعاء، أو الخبرات الدينية، فقد فشل بانتظام. وحين يحدث ذلك في العلم، يتم رفض الفرضية قيد الاختبار. وهذا ما لم يحدث يوما في الدين، أقله كنتيجة مباشرة للاختبار.
إن حفاظ بعض العلماء على تديّنهم إنما يعود لتقسيم تفكيرهم. فالدين يقوم على الإيمان—بمعتقدات لا أساس لها في الأدلة أو العقل. الإيمان بلاهة. والإيمان فشل. فهو الضدّ الخاص للعلم. ولهذا، في النهاية، فالدين والعلم يظلان للأبد غير متوافقين من الأساس.


الثلاثاء، ديسمبر 17، 2013

إن الاقتباس الشهير لآينشتاين لم يعني ما تعلمته من قبل ..

فهو في الواقع لا يوفر أي عزاء للمؤمنين.


كان ألبرت آينشتاين من أشهر العلماء في عصرنا الحالي، ونظرا لذكائه الشديد، فإن آراءه حول الموضوعات غير العلمية كثيرا ما تعد فوق مستوى الجدل. وأحد أشهرها هو تصريحه الذي كثيرا ما يقتبسه المتدينون ومدّعو التوافق بين الإيمان والعلم. وهو يعود لمقال آينشتاين "العلم والدين،" المنشور عام 1954.
"العلم من دون الدين أعرج، والدين من دون العلم أعمى."
يستخدم هذا الاقتباس بوفرة لإثبات تدين آينشتاين وكذلك إيمانه بالتوافق—بل والتكامل المشترك—بين العلم والدين. ولكنه نادرا ما يذكر ضمن سياقه، وحين ترى السياق ستكتشف أن هذا الاقتباس يفترض أن لا يوفر أي سلوان للمؤمنين. ولكن دعني في البداية أثبت كيف أن آينشتاين، في نفس المقال، يقترح ما يعدّ جوهريا نفس صياغة ستيفن جاي غولد عن NOMA (الاختصاصات غير المتداخلة). لقد كانت فكرة غولد (التي من الواضح أنها ليست أصيلة) أن الدين والعلم متناغمان، نظرا لأنهما يمتلكان مهمتين مستقلتين إنما مكمّلتين لبعضهما: فالعلم يساعدنا على فهم التركيب المادي للكون، في حين يتعامل الدين مع القيم، الأخلاق، والمعاني الإنسانية. هذه هي صياغة  آينشتاين (مع توكيدي) :
لن يكون من الصعب أن نصل إلى اتفاق حول ما نفهمه من خلال العلم. فالعلم هو السعي عبر القرون لتجميع الظواهر المدركة لهذا العلم عن طريق التفكير النظامي في ترابطات هي أعمق ما يكون. أو بصياغة جريئة: هو إعادة بناء بَعدية a posteriori للوجود من خلال عملية التصور.
… وبالمثل، فالشخص المتدين يتصف بالتقوى، بمعنى أنه لا شك لديه في أهمية ورفعة هذه الأشياء والأهداف فوق الشخصية التي لا تتطلب أو تقدر على التأسيس العقلاني. فهي موجودة بنفس مستوى الضرورية والواقعية الذي لوجوده شخصيا. وبهذا المعنى، فالدين هو السعي الإنساني عبر العصور لأن نكون واعين بوضوح وكلية لتلك القيم والأهداف، ولأن نقرّبها ونوسّع تأثيرها بكل ثبات. لو أن المرء تصور العلم والدين وفقا لهذه التعريفات فإن الصراع بينهما يبدو مستحيلا، ذلك أن العلم يستطيع فقط التأكد مما يكون، وليس مما يجب أن يكون، وخارج هذا المجال فإن الأحكام القيمية من كل الأنواع تبدو ضرورية. أما الدين، من جهة اخرى، فيتعامل فقط مع تقييمات الفكر والفعل البشري: ولا يمكنه أن يتحدث بشكل مبرر عن الحقائق والعلاقات فيما بينها. ووفقا لهذا التفسير فإن الصراعات المعروفة بين الدين والعلم يجب أن تنسب جميعا إلى سوء فهم للحال التي وصفت توا.
على سبيل المثال، فإن الصراع يتصاعد حين تصر جماعة دينية على الحقانية المطلقة لكل العبارات المدونة في كتابها المقدس. مما يعني تدخلا من جانب الدين في فضاء العلم، وإليه ينتمي نضال الكنيسة ضد اعتقادات غاليليو وداروين. ومن جهة أخرى، فكثيرا ما حاول ممثلو العلم التوصل إلى أحكام أساسية فيما يخص القيم والأهداف على أساس المنهج العلمي، جاعلين أنفسهم بهذا في مواجهة الدين. وكل تلك الصراعات إنما نبعت من أخطاء قاتلة.
رغم هذا التقارب اللصيق مع آراء غولد في كتابه الصادر عام 1999 صخور الأزمنة، فإن غولد لا يذكر  آينشتاين ولا هذه الفقرة من كلامه. ولكن كلا الرجلين كانا مضللين في اقتراحهما أن هذا التكتيك سينجح في المواءمة بين الدين والعلم.

لماذا؟ أحد الأسباب هو أنهما قد تضمنا الأهداف والقيم البشرية بكل ثقة في اختصاص الدين، مهملين بالكامل عشرين قرنا من الأخلاقيات العلمانية ابتداءً من قدماء الإغريق. والدين ليس بالتأكيد مصدرا وحيدا، بل ليس مصدرا جيدا أصلا، لكيفية التصرف أو البحث عن المعنى في حياتنا. كما يخطئ   آينشتاين حين يزعم أن الدين يتعامل "فقط مع تقييمات الفكر والفعل البشري"، إذ يتجاهل حقيقة ملموسة هي أن العديد من الأديان تهتم أيضا بـ عبارات الحقيقة—كالعبارات حول وجود الله، أي نوع من الآلهة هو، ما الذي يريد منا فعله، إضافة إلى كيف وصلنا إلى هنا وإلى أين نذهب حين نموت. وبالفعل، فإن آينشتاين في الفقرة الثالثة يلاحظ أن للدين فعلا صلة بعبارات الحقيقة، وبالتالي ففي تعريفه خلل واضح.

لقد التف غولد حول هذا الالتباس ببساطة عبر ادعاء أن الأديان التي تطلق عبارات الحقيقة—متجاوزة بذلك على فضاء العلم—لم تكن أديانا سليمة. ولكن حيلة كهذه بالطبع تتخلى عن معظم المؤمنين في العالم، لأن معظم الأديان، بما فيها الإبراهيمية، تطلق ادعاءات حول كيفية تنظيم الكون. ولن ينفع أن يتم تعريف الدين بطريقة تستثني جمهرة المؤمنين.

وهكذا فإن لدي إشكالا مع توفيقية آينشتاين (وغولد). فالرجل كان فيزيائيا عظيما، لكنه لم يكن معصوما، ومما يدهشني أن أرى الناس يقتبسون أطروحاته غير العلمية كما لو كانت عصية على الدحض. فالخبير في الفيزياء ليس بالضرورة حجة في الفلسفة.

أما بالنسبة للاقتباس الشهير أعلاه، فإليك به ضمن السياق (مع توكيدي):
رغم أن الدين ربما يكون ما يحدد الهدف، فقد تعلّم مع ذلك من العلم، بمعناه الأرحب، أيّ وسيلة ستساهم في التوصل للأهداف التي قررها. ولكن العلم لا يمكن أن يخلقه إلا المفعمون بحقٍّ بالطموح نحو الحقيقة والفهم. ولكن مصدر الشعور هذا إنما ينبع من فضاء الدين، وإليه أيضا ينتمي الإيمان باحتمال أن تكون التنظيمات الصحيحة في عالم الوجود عقلانية، أي مقبولة لدى العقل. لا يمكنني التفكير في أي عالم أصيل يخلو من ذلك الإيمان العميق. ويمكن لهذه الحالة أن يعبّر عنها بصورة: العلم من دون الدين أعرج، والدين من دون العلم أعمى.
لا خلاف عندي مع هذه المساهمة المفترضة للعلم في الدين: مساعدته على اختيار طرق لتحقيق أهداف المرء. ولكن آينشتاين يهمل مساهمة أخرى للعلم في الدين: تفنيد عباراته عن الحقيقة. وأي دور كان لداروين في ذلك!

ولكن آينشتاين يخطئ من جديد عبر ادعاء أن "الطموح نحو الحقيقة والفهم … ينبع من فضاء الدين". فلعله يتصور "الدين" هنا كشكل من الفضول العميق حول الكون الذي يتجاوز الفرد. لكنه بالتأكيد لا يرى الدين كما يفهمه معظم الناس. لماذا لم يقل فقط أن لدى بعض الناس فضولا لا يشبع نحو اكتشاف الأشياء؟ لماذا كان عليه أن يعد ذلك الفضول شكلا من "الدين"؟ إن هذه التسوية هي ما يتسبب في تشويش مستمر حول اعتقادات آينشتاين. فهل كان شديد التوق لمجاملة المؤمنين إلى درجة إعادة تعريف "الدين" كدهشة غير مؤمنة؟ أو هل كان حقا مؤمنا بوحدة الوجود، يعبد الطبيعة بوصفها الإله؟ ليس الأمر واضحا.

ولكن الواضح من كتابات آينشتاين حول الدين والعلم، هو أنه لم يكن يعتقد بإله شخصي، وكان يرى الدين المؤلِّه خيالا من صنع البشر. ففي رسالة كتبها عام 1954، لم يدع مجالا للتردد (مترجما عن الألمانية الأصلية):
إن كلمة "الله" ليست بالنسبة لي أكثر من تعبير ونتاج للضعف البشري، والكتاب المقدس ليس سوى تجميع من الأساطير المعتبرة، إنما البدائية الخالصة، وهي مع ذلك طفولية جدا. ما من تفسير، مهما كان دقيقا، سيغير ذلك في نظري.
وبالفعل، فإن الفقرة الأخيرة من مقاله المنشور عام 1954 تثبت أن إيمانه ليس في اللاملموس، بل في العقلانية:
كلما أبعد التطور الروحي للإنسانية في التقدم، ازداد في نظري اليقين بأن الطريق إلى التدين الخالص لا يكمن في الخوف من الحياة، والخوف من الموت، والإيمان الأعمى، بل في السعي خلف المعرفة العقلانية. وبهذا المعنى فأنا أعتقد أن على الكاهن أن يصبح معلّما لو شاء الإنصاف في مهمته التربوية الرفيعة.
ختاما، فأنا أعترض على عبارة آينشتاين حول أن قيمة العقل في فهم العالم هي شكل من "الإيمان العميق". فكما كتبت في مجلة Slate، فإن ذلك يبعث على التشوش لأن المعنى الديني للإيمان هو "اعتقاد ديني راسخ دون أدلة مؤسسة"، في حين أن إيمان العالم بقوانين الفيزياء هو ببساطة مختصر لـ "الثقة الشديدة، بناءً على أدلة وتجارب مكررة، حول ماهية الأشياء". إضافة لذلك، فنحن لا نؤمن بالعقل: بل نستخدم العقل لأنه يساعدنا في اكتشاف الأشياء. وهو في الواقع الوسيلة الوحيدة التي حققنا عبرها أي تقدم في فهم الكون. ولو ثبت أن لطرق أخرى أي قيمة تذكر، كالكشف الشخصي أو ألواح ويجا، لكنا سنستخدمها أيضا.

رغم أن آينشتاين لم يؤمن بالإله المتعارف، فإن تفسيره للتوافق بين الدين والعلم قد أسيء فهمه على نطاق واسع، وبعض ذلك يعود لخطأه هو. فما كان يجب أن يقوم به هو التخلي عن كلمة "الإيمان" لصالح "الثقة النابعة من الخبرة" ثم لا يحاول ادعاء أن الفضول والدهشة تجاه الطبيعة هي أحد أشكال الدين. إن ذلك التشويش (أو ربما عدم دقة التعبير) هو ما قاد إلى سجال مطول وإساءة تمثيل لما كان آينشتاين يعتقد به حول الإله والدين.

دعني إذن أعيد صياغة عبارة آينشتاين الشهيرة في هيئة أظن أنه كان يقصدها:
العلم دون فضول عميق لن يذهب لأي مكان، والدين من دون العلم تلحقه إعاقة مزدوجة.
إعاقة مزدوجة، بالطبع، لأن الأديان المؤلّهة تستند إلى كائن فوق طبيعي لكنه خيالي، وتتعقد إعاقتها حين ترفض نتائج العلم. في النهاية، فإن اقتباس آينشتاين الشهير يجب أن لا يوفر أي عزاء—أو عتاد—للمؤلهين: لأن آينشتاين لم يرى "الدين" بوصفه ألوهيا. ولكني أتمنى لو كان قد كتب بوضوح أكثر قليلا، فكّر بوضوح أكثر قليلا، أو ربما تجنب بالكامل مناقشة العلاقة بين العلم والدين. فهو في هذا الموضوع أقل تماسكا من العديد من الفلاسفة، بل والعديد من العلماء. لقد كان آينشتاين، لكنه لم يكن إلها.

المقال الأصلي:http://www.newrepublic.com/node/115821