الخميس، يناير 05، 2012

عن الهند والحضارة والقيم الغربية ــ ابن الوراق

هناك قصة حول المهاتما غاندي منتشرة منذ سنوات. فبعد أن أخذ لجولة في بريطانيا العظمى، سُئل في البرلمان عن رأيه في الحضارة البريطانية. وأجاب غاندي: ربما تكون فكرة جيدة. يصعب تتبع مصدر هذه القصة وقد تكون مختلقة. ومع ذلك، فهذا الرد—الذي يبدي دعابة قليلة وحكمة أقل—يلخص ببلاغةٍ الجحود، النفاق، التعجرف، وعدم الفهم لدى غاندي.

كانت فلسفة اللاعنف لدى غاندي فعالة مع البريطانيين تحديدا لأنهم كانوا غير ميالين لاستخدام العنف المفرط ضد مواطنين عزل. ولهذا فقد تصرفوا بشكل متحضر، وخرجوا. هل كانت تكتيكات غاندي لتنفع مع النازيين؟ وبالإضافة، فإن الانسحاب البريطاني من الهند أعقبه العنف، حيث ذبح المسلمون الهندوس وبالعكس. نيراد تشودري، وهو مثقف هندي، أنحى باللوم دوما على غاندي. "عندي أن كل مطالبات غاندي [للحكومة البريطانية] لم تبدو متطرفة فقط، بل أيضا قاسية ولاعقلانية،" يكتب تشودري. "لقد بدا لي أن إيديولوجيته بكاملها كان يدفعها قرار بهجران الحياة المتحضرة والعودة إلى حياة بدائية." (1)

ماذا عن حضارتك الهندية ذاتها، يا سيد غاندي؟ لقد منع البريطانيون مظهرا واحد لها، وهو عادة الساتي، حيث كانت الأرملة الهندوسية تجبر على حرق نفسها على كومة زوجها الجنائزية. وكذلك منع البرتغاليون والفرنسيون لاحقا والهولنديون هذه الممارسة في مستعمراتهم الهندية. تعبير مخزي آخر عن الحضارة الهندية، وهو نظام الطبقات المشين، لا يزال فعالا حتى اليوم، مانعا الملايين من حقوقهم الإنسانية، حتى بعد خمسة وستين عاما من تحريمه قانونيا.

ماذا عن عنصريتك أنت، سيد غاندي؟ في انتقاد غني بالتوثيق، يشير ج.ب. سينغ إلى أنه خلال حروب الزولو في جنوب أفريقيا، كان المهاتما يحض الهنود على إظهار الحمية الوطنية بقتل السود. "غاندي متشوق جدا ليرى الهنود في حرب ضد السود،" يكتب سينغ. "فبعد كل شيء، يخبرهم بصراحة أنهم أيضا توسعيون ضد السود، ولهذا فوقوفهم كتفا لكتف مع رفاق التوسع البيض هو تقدم طبيعي." (2)

وإلى ماذا يسعنا أن ننسب الإخفاقات الفاضحة في الهند اليوم؟ ففي 2007، أعلن البنك الدولي أن 80 بالمئة من سكان الهند الـ1,1 ملياراً يعيشون على أقل من دولارين يوميا—وهذا يعني أن أكثر من ثلث فقراء العالم يعيشون في الهند. (3) وبعد عامين، قدّرت منظمة الصحة العالمية أن "حوالي 49 بالمئة من أطفال العالم ناقصي الوزن، 34 بالمئة من أطفال العالم المتقزمين، و 46 بالمئة من أطفال العالم المهزولين" يعيشون في الهند، رغم التقدم المثير للإعجاب في الاقتصاد الإجمالي. (4) وجد مؤشر الجوع العالمي "أن معدلات ’خطرة‘ من الجوع تستمر في الولايات الهندية التي أظهرت معدلات تحسد عليها من النمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة، بما فيها مهاراشترا وغوجرات." (5) تملك الهند حاليا أكبر تعداد سكاني للأميين في أي أمة على الأرض. والعنصرية وإدمان المخدرات منتشرة وفي تنامي. (6) يمكن للمرء حتى أن يقترح أن الحضارة الهندية قد تكون فكرة جيدة.

إن نبذ غاندي للبريطانيين بازدراء تفنده وقائع على الجانبين—من المستعمـِرين والمستعمـَرين. فعند مغادرتها، تركت بريطانيا الهند وفيها حكومة برلمانية منتخبة تحيا حتى يومنا هذا، وهي دلالة أكيدة على أن الديمقراطية قد زرعت بعمق في الفكر السياسي الهندي. والدستور الذي صاغه الهنود تضمن لائحة حقوق مشتقة من الدستور الأمريكي، مستخدما حتى بعض المصطلحات المطابقة—وهو ميراث بريطاني غير مباشر. تضمن الإرث البريطاني حكم القانون: وفي الحقيقة، أن كامل النظام القانوني الذي قدموه على مر السنين بقي دون تغيير. لقد بني على يد اللورد ماكولاي، الذي موهبته "وهبت الحياة للهند الحديثة كما نعرفها،" وفقا للمؤرخ الهندي ك.م. پانّيكار. (7) لقد ورثت الهند أيضا آلية إدارية على الطراز البريطاني، وهي الخدمة المدنية الهندية طاهرة السمعة، لتتحمل أعباء الحكومة في بلد كبير يحوي أديانا ولغات شتى.

ترك البريطانيون الهند بأطباء، معلمين، مهندسين، وحرفيين حسني التعليم، وبنية تحتية من سكك الحديد، الطرق، الجسور، ونظم الري، إضافة إلى المعمارية الڤكتورية المتميزة. واللغة الإنجليزية تمكّن هنديا من الجنوب لغته الأم هي التاميل من التخاطب مع آخر من دلهي يتحدث الهندية أو البنجابية. إن إجادة الإنجليزية تسمح للهند بأخذ مكانها في الاقتصاد العالمي اليوم. كما كانت هناك هبات روحية أيضا: فالباحثون البريطانيون وغيرهم من الأوربيين أعادوا للهند تاريخها وثقافتها. بفضولهم الفكري العصي على الإشباع، كتب البريطانيون حول كل جانب من الحياة، الأدب، الفلسفة، الدين، اللغة، الفن والمعمارية في الهند. لا تزال دراساتهم موقرة ويتم تدريسها لكل تلميذ هندي. كانت الحضارة البريطانية حقا أكثر من فكرة جيدة، بل نعمة عظيمة.

كثير مما أصبح عظيم القيمة لدى الأمم الخارجة من عصر التوسع قد ورثه لهم البريطانيون والقوى الأوربية الأخرى. ولكن عديدا من الأكاديميين الغربيين، مع بعض مثقفي العالم الثالث، يدّعون أن الغرب قد أخذ من العالم أكثر مما ساهم فيه، وأن نجاحه المادي قد تحقق على حساب الآخرين. تتم مضايقة القادة الأوربيين من أجل الاعتذار دائما عن خطايا الغرب. ويعد "أوربي التوجه" أو عنصريا أن يؤكد على أن الغرب متفوق على الثقافات الأخرى؛ وبدلا منه، يتم تشجيعنا على ترديد أن الحضارة الأوربية منقوصة ثقافيا، فكريا، وروحيا. ولكننا نعرف أن هذه مجرد سفاسف.

يناقش هذا البحث أن الحضارة الغربية جيدة للعالم. سوف أخطط مثالا أخلاقيا بالاستناد على مجموعة خاصة من القيم من تاريخ الغرب—قيم صريحة ومضمرة معا في الديمقراطيات الليبرالية الغربية، متجسدة في ذلك المستند الرائع، دستور الولايات المتحدة الأميركية. يمكننا تتبع هذه المثل رجوعا إلى الكتاب المقدس والعتاقة الإغريقية. قد يتتبع فاشي أو شيوعي أيضا مبادئه هو رجوعا بالزمن إلى اليونان القديمة، ربما إلى إسبارطة بدلا من أثينة. ولكن انتصاري لفرع مختلف من ميراثنا الغربي ليس اعتباطيا ولا ذاتيا: فالترتيبات السياسية والاجتماعية في الغرب في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين تدل على أننا وصلنا لحد معين من الاتفاق على المبادئ التي أنتجت الاستقرار والازدهار الذي تمتعنا به منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

بين أهم هذه المبادئ تقف حرية الفعل Liberty والكرامة الفردية. ولكن حرياتنا تؤخذ أحيانا كمسلّمات؛ إذ ننسى أن علينا حمايتها لئلا تختفي دون انتباهنا حتى فوت الأوان. قد لا ندرك كم خطيرة هي التهديدات لقيمنا الأساسية، من قبل أعدائنا الأجانب والاسترضاء التعدد-ثقافي في الوطن. كما قال آندرو جاكسون، "إن الحذر الأبدي للشعب هو ثمن حرية الفعل." (8) في هذا الكتاب، أقترح طرقا لنكون حذرين وأقدم بعض الأدوات للدفاع عن الحضارة الغربية من الأخطار التي تواجهها.

المصدر:


Why the West is Best: A Muslim Apostate's Defense of Liberal Democracy, Ibn Warraq, 2011.

الهوامش:

(1) Nirad C. Chaudhuri, Thy Hand, Great Anarch! India 1921–1952 (New York: Addison-Wesley, 1987), p. 28.
(2) G. B. Singh, Gandhi: Behind the Mask of Divinity (Amherst, N.Y.: Prometheus Books, 2004), pp. 102–3.
(3) Alison Granito, “80% of Indians live on less than $2 a day: WB,” LiveMint.com and Wall Street Journal, October 16, 2007.
(4) “India has highest number of underweight children,” Indian Express, April 14, 2009.
(5) Somini Sengupta, “As Indian Growth Soars, Child Hunger Persists,” New York Times, March 13, 2009.
(6) India has an estimated 70 million drug addicts and the number is rising as the problem spreads to semi-urban and backward areas, according to official figures. A source from the Ministry of Social Justice and Empowerment said, “Drug and alcohol abuse is becoming an area of concern as this is increasing while traditional moorings, social taboos, emphasis on self-restraint and pervasive control and discipline of the joint family and community are eroding.” See “Over 70M drug addicts in India,” SiliconIndia, May 4, 2006.
(7) Geoffrey Moorhouse, India Britannica (London: Paladin, 1986), pp. 19, 196–97.
(8) Robert V. Remini, Andrew Jackson (New York: Harper Perennial, 1999), p. 217.

الأربعاء، يناير 04، 2012

حول نصوص توشيحية مسيحية قبل إسلامية في القرآن -- الحلقة 4

(ج) حول الشكل الأدبي للأنواع المختلفة من النص القرآني.

نصوص القرآن الإسلامية بقول ثاني وبقول واحد إنما صممت أصلا ثم تم تسليمها كنصوص نثرية. في نصوص القول الثاني، كنتيجة لإهمال أو إسقاط الإيقاعات الداخلية لما كان يوما توشيحة مسيحية، تكون نوع من الشعر أو الجملة بحيث استخدم له مصطلح "نثر قرآني مقفى" في الدراسات الغربية؛ والنصوص القرآنية اللاحقة، بقول واحد في الأصل، تستغل هذا النوع من النثر القرآني المقفى المبكر. فمنذ عهد رد-التفسير الإسلامي وإلغاء التراتيل التوشيحية، أصبحت كل آية نثر أو جملة قرآنية تقفى بكلمتها الأخيرة، رغم بُعد هذه الكلمة الآن عن الآيات والجمل النثرية الطويلة المحيطة بها، سابقة كانت أو لاحقة؛ فقد أصبحت الآيات طويلة ورتيبة بسبب إلغاء الإيقاع الداخلي. وفي أحدث النصوص بقول واحد هذه، أصبحت الجمل طويلة إلى درجة أنه، رغم انتهاء كل منها بكلمة مقفاة بعيدة، يصعب على المرء الحديثُ بعد الآن عن تأثير قافية.

وهذا يستبطن حقيقة أن النصوص المسماة إيقاعية من القرآن ليست شكلا أصيلا من الفن الشعري، بل تقنية شاذة تطورت من الإطاحة بالشعر التوشيحي المسيحي المتعقد، ومن ضرورة التعمية على التركيب التوشيحي للتراتيل المسيحية.

كنتيجة لهذا البحث، يعتقد لولينغ أن مساواة المصطلحين "نثر مقفى" و "سجع" التي تمت هنا وهناك في الدراسات الغربية، يجب التخلي عنها. فالسجع هو جملة طويلة، تلفظ بتشديد الحروف، يقولها عادة عراف وثني، وتتكون من أجزاء مقطعية قصيرة جدا، نهاياتها غير مرتبة كي تقفى وفقا لوزن شعري أو توشيحي، رغم أن السجع يتضمن الجناس وكذلك قوافي مبعثرة دون نظام.

في القرآن يظهر السجع فقط كنص إسلامي بقول واحد، كثيرا ما يوضع قبل أو بعد طبقة أساسية توشيحية مسيحية سابقا، قد طبع عليها تفسير إسلامي جديد. بما أن لولينغ ينسب النصوص بقول واحد إلى محمد، وأنها تتخذ عادة شكل سجع الكهان، فهو يرى في هذا توكيدا لأطروحته أن الحركة البد-إسلامية التي قادها النبي قد كانت واقعا حركة للابتعاد عن المسيحية الغربية، الهيلينية، التثليثية الإمبراطورية، تجاه الدين القبلي البد-سامي، المرموز له بأسلافه إبراهيم وإسماعيل. إن استخدام النبي للسجع قد يفسر لماذا عده معارضوه المكيون، الذين يعدهم لولينغ مسيحيين تثليثيين، كاهنا أو عرافا. تلك المقاطع القرآنية التي تحمل على الشعراء، مثل الشعراء: 224-226، سيتم نسبتها إلى الإنذار المسيحي القب-إسلامي ضد الوثنيين من أهل الكروم المقدسة والأماكن المقدسة، والذين تضمنوا، بكل تأكيد، العرافين الوثنيين.

(د) حول النواحي اللغوية للنصوص المختلفة في القرآن.

ينتج التحليل اللغوي لدى لولينغ لنصوص القرآن المختلفة نتيجة أنه رغم حقيقة أن القرآن الرسمي مكتوب بما يسمى عادة العربية الرفيعة أو الكلاسية، فهو في الواقع يتضمن أربع أنواع أو معايير من العربية، إلى حد إمكانية التمييز بينها، تتبع بعضها بعضا في الزمن، ويمكن تسميتها بالطبقات اللغوية.

(1) الطبقة اللغوية العربية الأقدم هي لغة التراتيل التوشيحية المسيحية سابقا. هذه العربية، وهي بحد ذاتها عامية مثقفة جدا، تختلف بشكل ملحوظ وفي عدة جوانب عن العربية الكلاسية الرفيعة. فأولا، نهايات الأسماء الإعرابية ونهايات الأفعال الزمنية إما مفقودة، أو تظهر اعتباطا لتملأ فراغات في إيقاع أبيات الموشح، ولتخدم كنهايات إيقاعية ثانوية؛ وكل ذلك دون عناية بالصواب النحوي لنهايات كهذه.

بالفعل، فكثيرا ما يبدو أن مؤلف الإيقاع يسيء استخدام النهايات النحوية الكلاسية عمدا ومزاحا كآلية شعرية ماهرة. وهذا مظهر للشعر الشعبي والعامي في لغات عدة، ويستبطن الشكل الأدبي للشعر التوشيحي القب-إسلامي. ولكن هذه اللغة العامية إنما المثقفة لا تختلف عن العربية الكلاسية الرفيعة في نحوها فحسب، بل أيضا معجميا في مفرداتها. فإضافة إلى الفرق المتوقع في اختيار ومعاني الكلمات بين العامية والكلاسية، فهناك الكثير من الكلمات السامية التي تدخلت في عربية وسط العربية المسيحية القب-إسلامية، كما يسميها لولينغ، من الثقافات المسيحية السامية المجاورة، لاسيما من معاصراتها: الآرامية الكتابية، السريانية، والأقل تكرارا: العبرية. هذه الكلمات، رغم تفرعها من نفس جذر الكلمة السامي، قد تبنت خلال التطور طويل الأمد لهذه اللغات السامية المختلفة معاني مختلفة قليلا، وأحيانا معاني مختلفة من الأصل حتى.

في الخلاصة: إن لغة التراتيل المسيحية في الطبقة الأساس في القرآن هي نحويا عامية عربية، وفوق ذلك، لغة عامية قد لقحت معجمها بوفرة الثقافات المسيحية السامية المجاورة. ولهذا فإنه من شديد الأهمية للبحث في هذه التراتيل المسيحية البد-قرآنية أن يستخدم نحو المسيحية العربية المبكرة، (6) وأن تستشار كل المعاجم المتوفرة لكل الثقافات المسيحية السامية المجاورة.

(2) وتأتي ثانيا لغة نصوص القرآن بقول ثاني.

هذه اللغة ليست فعلا لغة بالمعنى السليم للكلمة، ولكن تصورا انتقائيا وفريدا للكلام بالنسبة للموقف، كنتيجة لمحاولة فرض تفسير جديد على نص مبهم إنما مصيري. إن الطبيعة الخطاءة لهذا الكم كانت ولا تزال معذورة دون إقناع، من قبل علماء القرآن المسلمين المستقيمين وكذلك من عدة باحثي إسلام غربيين، كنتيجة من الحالة الوجدية للنبي خلال مروره بالوحي. ولكن تفسير كيف انتقل هذا الكلام الوجدي، في الحال، إلى نص الكتاب، لا يزال مفقودا.

(3) واللغة الثالثة هي لغة الإيضاحات والتفسيرات التحريرية المبكرة، المقحمة أو المضافة إلى النصوص بقول ثاني، من أجل ربط التفسير الجديد بطبقة الرسم الأساسية المستبطنة للنص. هذه اللغة، مع تفضيلها المريب للتراكيب الاسمية بدلا من الفعلية، تشكل تناقضا صارخا مع اللغة المثقفة لكل من التراتيل المسيحية المستبطنة، وكذلك العربية الكلاسية قديمة وحديثة. تكشف هذه اللغة الاسمية غالبا بفقدانها للبلاغة عن هويتها كلغة للأميين؛ وعلى الأقل كلغة دون تاريخ أدبي مستقل يمكن التعرف به.

(4) اللغة الرابعة هي لغة النصوص بقول واحد المتأخرة والأخيرة. وهذا يعني، تلك النصوص الإسلامية أصلا التي لا ترتبط مباشرة أو بتوسط مع طبقة الرسم الأساسية المسيحية سابقا، ولكن تظهر تعقيدات مترابطة أكبر من نصوص نثرية في العربية الكلاسية. هذه اللغة، في اصطلاحاتها وتعقيدها النحوي، وفي مظهرها المتمكن وبالتالي الأنيق، يجب تمييزها تفصيلا عن اللغة المعرفة في الفقرة السابقة. بناء على معلومات ينقلها التراث الإسلامي، يستنتج لولينغ أن هذه اللغة لا بد أن تنسب إلى النبي نفسه، أو ربما أحد كتابه المثقفين المسؤولين عن تسجيل إملاءاته.

مع أنه بالنسبة للغات 1 و 2 و 3، مما لا يتطرق إليه السؤال أنها لا تمثل العربية الكلاسية الرفيعة ولا يفترض بها أصلا أن تُقرأ كذلك، لا يزال سؤالا مفتوحا إن كانت اللغة الرابعة والأخيرة قد قصد بها أن تقرأ كذلك، متضمنة الحالات الإعرابية.

يفترض لولينغ النفي، ولكن رغم تشويه ورد-تفسير محرري القرآن بعد محمد لهذه اللغة الأخيرة فهي، من جديد، لغة خلقت خصيصا لأجل الموقف. هذه اللغة الرابعة والأخيرة ليست اهتمام لولينغ الأكبر، حيث أنه مهتم أكثر بالكشف عن التراتيل المسيحية العامية في الطبقة الأساسية.


المصدر:


الهوامش:

(6) First and foremost that of Joshua Blau, A Grammar of Christian Arabic (Louvain, 1966), based mainly on South Palestinian texts of the first millenium.

الثلاثاء، يناير 03، 2012

حول نصوص توشيحية مسيحية قبل إسلامية في القرآن -- الحلقة 3

الأطروحة 2: وفقا لعبارة الأطروحة 1، فالنص المتسلم للقرآن يتضمن أربعة أنواع، أو طبقات، من النصوص. وهذه الطبقات الأربع هي:

الأولى، لأنها الأقدم تاريخيا، نصوص التراتيل التوشيحية المسيحية القب-إسلامية. وهذه تسمى "النصوص المسيحية سابقا."


الثانية، واللاحقة تاريخيا، نصوص التفسير الإسلامي الجديد المطبوع على الطبقة الأساسية من النصوص المسيحية سابقا. وهذه تسمى "النصوص القرآنية بقول ثاني."


الثالثة، والموازية تاريخيا للطبقة الثانية، النصوص الإسلامية النقية أصلا؛ أي بمعنى: تلك النصوص التي تنسب إلى النبي محمد. وهذه تسمى "النصوص القرآنية بقول واحد." تشكل هذه حوالي الثلثين من مجمل القرآن، والثلث الثالث هو النصوص المسيحية سابقا المتحولة إلى النصوص القرآنية بقول ثاني.
 

الرابعة، واللاحقة لمحمد تاريخيا، هي النصوص القرآنية بقول واحد التي رد-تفسيرها محررو القرآن بطريقة شوهت بها الأفكار الأصلية للنبي. هذه النصوص تدعى "نصوص محرري القرآن بعد محمد."

تحليل أبعد لهذه الطبقات النصية المختلفة الأربع.

(أ) المصطلحات العلمية الإسلامية للطبقات المختلفة من النص القرآني.

(1) المتشابهات: "النصوص التي تشبه شيئا آخر،" أو "النصوص التي تتضمن نواحي شتى من التفسير." هذه هي المعاني الأصلية للمصطلح، ولكنها فسرت لاحقا لتشير إلى "التعابير المشبهة بالبشر في القرآن،" ربما لحرف الانتباه عن النصوص المحرجة، كتلك التي تتضمن تراتيل مسيحية أصيلة.


(2) المحكمات: "النصوص المقررة، الصارمة، غير المبهمة." أصبح هذا يعني كل القرآن، ولكنه أصلا أشار إلى النوع الثالث من النصوص المذكور أعلاه، ذلك المنسوب إلى النبي من دون أي نص مسيحي سابقا يستبطنه.
 

(3) المفصل: "النصوص التي تفسر." لا بد أن هذا المصطلح كان جزءا من المحكم، لأنه ليست كل نصوص المحكم مفصلة، ولكن النص المفصل محكم دوما. إن كان المحكم يشير للطبقة الثالثة المذكورة أعلاه، فلا بد أن المفصل يشير للإيضاحات والتفسيرات المقحمة في نصوص الطبقة الأولى والثالثة لأجل تثبيت المعاني المفضلة لاحقا لهذه الطبقة، لمنع الفهم الأصلي من الظهور. لا بد أن هذه الإقحامات كانت ثمينة في وقت لم تكن النقاط المميزة وعلامات الإعراب مسموحة بعد في نصوص القرآن. مثال واضح على تفسير مقحم كهذا هو التوبة: 16.

(ب) حول المحتويات مميزة الخصائص للأنواع المختلفة في النص القرآني.

عند المحتويات المميزة للأنواع المختلفة في النص القرآني يأتي دور الجانب النقد-عقائدي من المنهج الثلاثي للولينغ. فهو يجادل بأن المحتوى الفكري الإسلامي الذي تم طبعه على طبقة الرسم الأساسية من النصوص المسيحية سابقا قد حددتها تصورات عربية وثنية بل، في الواقع، حددها الدين العربي القبلي في عصر قبل الإسلام، وأنه من هذا المنطلق تنحو هذه النصوص ضد العقائد المسيحية واليهودية. لا يعد لولينغ تصنيفه لهذه النصوص الإسلامية الأقدم كوثنية حطا منها بل تقييما إيجابيا: حيث يرى لولينغ المسيحية الأصلية، لا الكنيسة الهلينية التوحيدية-الامبراطورية، أنه رد-طفو للدين الوثني/القبلي الشعبي من حضيض دين الكادحين. لقد كانت، واقعا، إحياءً للدين السامي القديم والإسرائيلي القبلي القديم في الأماكن المقدسة والكروم المقدسة، حيث تفتحت هذه النِحلة عند مراقد الأبطال المسيحانيين البدئيين. تم اضطهاد وسحق هذا الدين القديم على يد الدين اليهودي الإمبراطوري ليهوه وبعد إحياءة وجيزة على يد يسوع، تم سحقه ثانية على يد المسيحية الإمبراطورية. يرى لولينغ أن هذا الدين القديم قد انتشر مبكرا جدا إلى المجتمع القبلي على مدى العربية، وقد بقي هناك حتى بداية القرن العشرين.

مناقضا لتصوير الإسلام المستقيم المتأخر للدافع المحوري للحركة البد-إسلامية، الذي يعرضه كهزيمة لوثنية وسط العربية، يرى لولينغ الحركة البد-إسلامية التي قادها محمد كحركة خرجت عن مسيحية وسط العربية، وتصوراتها التثليثية بالخصوص، تجاه الدين السامي الوثني/القبلي القديم، تحت شعار "عودوا إلى دين إسماعيل وبنيه." يستدل على هذا الانزياح تجاه الدين القبلي في رد-تفسير بد-إسلامي للطبقة الأساسية المسيحية الهيلينية لنص القرآن، خصوصا في تلك المقاطع التي تحارب "الجنة،" كرم الخصوبة العربي الوثني، الذي لعنته اليهودية تماما كتلك النِحلة عند الأماكن المقدسة. هذه القطع المسيحية الهلينية ضد-الوثنية، المحتواة أصلا في نص الرسم القرآني، رد تفسيرها كلها، فيما عدا الكهف: 40، على يد الآليات التحريرية للإسلام المستقيم المبكر، بحيث أصبحت "الجنة" الوثنية بالتالي تظهر كـ"الفردوس" الإسلامي المقدس، مع متعها الحسية الوثنية، التي تختلف بكل وضوح عن السماء المسيحية. مثال آخر على هذا الانزياح البد-إسلامي عن التصورات المسيحية هو أن نصوص الطبقة الأساسية المسيحية التي تشير إلى الخلاص في المسيح تم تعديلها لتنطبق على القرآن، أو تدعيمها من قبل المحررين بعلامات سلبية، فسرت بأنها تنطبق على خصوم النبي.

إن النصوص الإسلامية بقول واحد قد تأثرت أيضا بشكل ملحوظ بهذه الأفكار القبلية الوثنية العربية، ويمكن التعرف عليها قبل كل شيء في نصوص النثر البد-إسلامية المطبوعة على طبقة الرسم الأساسية للتراتيل المسيحية سابقا. تم إقحام مثل هذه النصوص بقول واحد كإيضاحات وتفسيرات ضمن رد-تفسير النصوص المسيحية، وتظهر أحيانا كنسخ جديدة وأنيقة نصيا أو نسخ بديلة عن نصوص غير متقنة قواعديا وقاموسيا، نتجت عن رد-التفسير الأصلي للنصوص التوشيحية. هذه النسخ الجديدة أو البديلة عادة ما توضع على مبعدة من أصولها غير المتقنة، التي تكررها بشكل أنيق لغويا. وهذا ما يولد الشك في أن هذه النسخ النصية الجديدة الأنيقة لم توضع بعيدا عن أصولها الخرقاء من ناحية المسافة النصية، بل أيضا من ناحية زمن التأليف. وهذا يعني أنها قد ألفت في وقت لاحق على التداخل الأصلي غير المتقن مع الرسم، الذي فرض ضرورة إنشائها لاحقا لغرض التوضيح.


المصدر:


الاثنين، يناير 02، 2012

حول نصوص توشيحية مسيحية قبل إسلامية في القرآن -- الحلقة 2

أطروحات ومنهجيات:

توجه لولينغ إلى النص القرآني يرتكز على أربع أطروحات أساسية.

الأطروحة 1: حوالي ثلث النص القرآني الحالي، كما نقله الإسلام الرسمي، يحتوي كطبقة أساس خفية نصا مسيحيا قب-إسلامي في الأصل.

(أ) صعوبات في تفسير الخط العربي القديم.

كل نص عربي اليوم، وكذلك في القرون الأربعةعشر أو الخمسةعشر الماضية، يتكون من ثلاثة طبقات مختلفة. الأولى، هي شكل الحروف الأساسي، أو الرسم. الثانية، هي النقاط المميزة، ووظيفتها هي التفريق بين الأحرف المتشابهة في الرسم. والثالثة هي علامات الأصوات، الحركات، التي لا تُظهر في نص الصوامت الأساسي متمثلا بالرسم. النقطة الحاسمة هنا هي أنه في العصور القب-إسلامية وصدر الإسلام لم تكن النقاط المميزة توضع على الإطلاق في الكتابة اليومية، لأنها لم تكن معروفة آنذاك أو لم يتقبلها الجميع. في النص القرآني، على الأقل خلال القرن الأول من وجوده، كانت النقاط المميزة ممنوعة حتى، ظاهرا من منطلق إجلال تقي للنص المقدس. كل المخطوطات القرآنية الأقدم التي وصلت إلينا تظهر النص دون نقاط أو علامات، فضلا عن الحركات الإعرابية، التي قدمت في وقت لاحق. يعني هذا أن العثور على سلسلة الصوامت المقصودة أصلا، ومن هنا المعنى المقصود أصلا للنص، يصبح أشبه باليانصيب، وكثيرا ما تحدده تصورات المحرر حول ما يجب أن يعنيه النص. (5)

(ب) الفرق بين التراكيب الشعرية التوشيحية والنصوص النثرية في القرآن كمفتاح مهم جدا في رد-بناء القرآن القب-اسلامي المخفي في القرآن اليوم.

لقد لوحظ دوما أنه في القرآن المتناقل تحتوي بعض السور بكل وضوح على لازمات توشيحية، رغم أن ترداد هذه اللازمات غالبا ما لا يتبع وزنا شعريا صارما يسهل إدراكه. كانت هذه الحقيقة تعد من قبل بعض باحثي الإسلاميات دليلا على أن القرآن احتوى أصلا تراكيب توشيحية، ترتيبها الصارم قد دمر في التحرير اللاحق للنص. لقد حول الخطاب التوشيحي أو الترتيلي القديم إلى نثر وغيّر صياغة ومعاني المادة الأقدم. وهذا حصل كما يبدو حين تم تجميع وتلخيص النصوص لتخدم ككتاب مقدس للجماعة الإسلامية الوليدة.

وفقا للولينغ، فالكشف عن هذه النصوص التوشيحية القديمة يتطلب منهجية ثلاثية: (1) فيلولوجية (نحوية وصرفية)، (2) عروضية توشيحية، و (3) نقدية عقائدية؛ حيث تم إهمال المنهجين الأخيرين منذ الـ1930ـات، وهذا التوجه يمثل بداية جديدة. إن الضرب المميز من التراتيل الدينية التي يمكن فحصها في الطبقة الأساسية من القرآن ينتمي، شكلا وتاريخا، إلى سلسلة من التراثات الشعرية التوشيحية التي تعود إلى النماذج المصرية القديمة، العهد-قديمية، العربية القب-اسلامية القديمة، واليهودية القديمة، عبر التراتيل البيزنطية، القبطية، السريانية، العربية، والإثيوبية المتكافئة في العصور القب-اسلامية وصدر الإسلام، وصولا إلى الشعر التوشيحي القروسطي المتأخر والحديث.

يرى لولينغ مما لا يرقى إليه الشك أن التراتيل الإثيوبية المسيحية الغنية في أوائل القرن السادس تعود في الأساس إلى أصل مسيحي قبطي، أحيانا كلمة بكلمة عبر مئات الموشحات، التي احتفظ بتتابعها بأناقة. وتنتج أخطاء فهم متكررة للأصل القبطي في الترجمات الإثيوبية من أخطاء فهم اعتيادية لنص عربي ملتبس دون نقاط مميزة ولا حركات إعراب. عند لولينغ، يدل هذا على أن هذه النصوص التوشيحية الإثيوبية الضخمة من حوالي 500 ح.ش، المرتكزة على مصادر قبطية، لا بد أنها مرت في مرحلة وسط-عربية من تراتيل توشيحية مسيحية مماثلة في الضخامة، ولكن مفقودة اليوم. تتضمن هذه الأطروحة أن يعد أصيلا الشعر المقطّع لامرئ القيس المحسوب قب-إسلاميا، ورد-تشكيل شبه كامل للتراتيل المسيحية الأصلية على يد مجمعي ومحرري القرآن الأوائل، الذين غيروا الشعر إلى نثر وعدّلوا في معناه الأصلي.

(ج) لغات مختلفة في القرآن.

إن لغة النصوص التوشيحية المسيحية التي يجدها لولينغ تستبطن القرآن، هي دون نقاط مميزة أو علامات إعراب، وتشابه ما سماه "العربية القديمة،" دالة على تراث من التربية والمعرفة المثقفة. هذه العربية المسيحية غير الكلاسية، العامية، ومع ذلك الأدبية حملت مكافئات قواعدية عديدة للغة الثقافة المسيحية المبكرة؛ عربية معيارية-وسطا، تربوية، ومثقفة خدمت كلغة جامعة بين القبائل، أو كوينة koine، عبر الجزيرة العربية. يعد لولينغ الرخص والقواعد النحوية للشعر التوشيحي القروسطي، كما أوصله إلينا فقهاء العربية القروسطيون، منطبقة أيضا على التراتيل المسيحية القب-اسلامية في القرآن.

(د) تقنيات رد-التفسير الإسلامي للبد-قرآن المسيحي سابقا المخفي في الطبقة الأساسية من القرآن الرسمي المتناقل.

(1) القراءة المنحرفة للحركات، والتي تعني لاحقا الوضع المختلف لعلامات الإعراب، ولكن مع ذلك الاحتفاظ تماما بالطبقة الأساسية من الخط العربي.
(2) القراءة المنحرفة للصوامت، والتي تعني لاحقا الوضع المختلف للنقاط المميزة على حروف ملتبسة، ولكن رغم ذلك، بدافع التقوى، الاحتفاظ تماما بطبقة الرسم.
(3) التغيير أو التشويه البسيط للحروف في طبقة الرسم، وفي نفس الوقت قراءة حروف وحركات مغايرة، وبالتالي تغيير النقاط المميزة وعلامات الإعراب.
(4) حذف، إضافة أو استبدال حروف مفردة من نص الصوامت في الطبقة الأساسية (الرسم)، من كلمات مفردة، جمل أو مقاطع.
(5) استغلال هيئة كتابة مغايرة أو مختلفة (عامية أو رفيعة).
(6) استغلال التطابق بين معاني مختلفة للكلمة والكلمة أو الجذر المقابل في العبرية، الآرامية (السريانية)، والعربية العامية أو الرفيعة.
(7) إعطاء معنى منحرف لكلمات مفردة على أساس ترابطات غامضة، بحيث يكون على سلسلة من المعاني القرآنية المعجمية أن تصنف كمخترعة.
(8) إهمال القواعد النحوية وبالذات المتعلقة بالصياغة ضمن القراءة المنحرفة الأولية للتراتيل المسيحية سابقا.

هذه التقنية الأخيرة قادت بعض النحويين العرب، دفاعا عن الشذوذات اللغوية التي أنتجتها، لادعاء أن محتوى القرآن ليس محكوما بالنحو العربي، بل النحو العربي هو المحكوم بالقرآن. لهذا فالقرآن، جزئيا، لا يناقض قواعد العربية الدنيوية الشائعة فحسب، بل نفسه أيضا حين يقول: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ (الأمور) لَهُمْ" [إبراهيم: 4] و "وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ" [النحل: 103]. وفقا لهذه النصوص، فإن التفسير البعيد للنحويين أن هذه الشذوذات النحوية للقرآن هي نتيجة للعبارات الوجدية للنبي هو أمر صعب الإقناع.


المصدر:

الهوامش:

(5) See also M. Cook, The Koran: A Very Short Introduction (Oxford, Oxford University Press, 2000), chap. 7, and Y. H. Safadi, Islamic Calligraphy (London: Thames & Hudson, 1978).

حول نصوص توشيحية مسيحية قبل إسلامية في القرآن -- الحلقة 1

حول نصوص توشيحية مسيحية قبل إسلامية في القرآن:
نظرة نقدية إلى عمل غونتر لولينغ

ابن الراوندي


مقدمة:
ولد غونتر لولينغ في ڤارنا، بلغاريا عام 1928. وقضى الفترة الأولى من حياته الأكاديمية في جامعة إرلنغن، ألمانيا بين 1956 و 1961. كان مقصده الأساسي أن يعمل كلاهوتي على الثيمات اللاهوتية للقرآن، ولكن خضوعا لمعارضة أستاذه لهذه الفكرة، وافق على العمل على موضوع تبني العلماء العرب للعلم اليوناني. ونظرا لاستمرار العلاقة السيئة بينه وبين أساتذته، أجبر على مغادرة الجامعة عام 1961، "دون أي إنجاز يذكر في تلك الأعوام." (1)

ولكن هذه التجربة السيئة كانت، في الواقع، نعمة متنكرة، لكونها قادته لنيل وظيفة مدير معهد غوته في حلب، سوريا، في الأعوام 1962 إلى 1965. وهناك تعلم ما لم يكن ليتعلمه لو بقي في الحياة الأكاديمية في جامعة ألمانية: ألفة عميقة مع العامية العربية. وقد ظهر لاحقا أن معرفة العامية العربية كانت من المتطلبات الأساسية لتحليل النص القرآني نقديا. عام 1966 اغتنم لولينغ الفرصة ليعود للحياة الأكاديمية في ألمانيا: أولا كأستاذ مساعد في قسم الطب في إرلنغن، مشرفا على الدراسات في تاريخ الطب القديم والعربي القروسطي، ومن ثم تحول في نهاية 1967 إلى منصب أستاذ مساعد في معهد إرلنغن للدراسات العربية والإسلامية. وهنا كان في موقع يمكنه من متابعة التوجه الانتقاد-عقائدي للقرآن الذي رغب فيه دوما. (2)

النتيجة الرئيسة لبحث لولينغ كانت أنه خلف حوالي ثلث النص القرآني توجد تراتيل توشيحية مسيحية ضد-تثليثية، تعود إلى بداية القرن السادس ب.ح.ش، قبل قرن تقريبا من بعثة محمد؛ حيث الخلفية المفترضة لهذا الاكتشاف هي وسط-العربية المسيحي في الغالب، بما في ذلك مكة، كعبة، وقريش مسيحية. عام 1970 قدم لولينغ أطروحة من 170 صفحة حول بحثه كأطروحة دكتوراه. والتقارير الرسمية حول الأطروحة كانت متحمسة، إذ تقول: "إن البرهان على بد-نصوص توشيحية، يمكن رد-بنائها، يمكن عده مؤكدا.. هذا العمل يضع تاريخ أصل الإسلام وتاريخ عقائديات المسيحية المشرقية المبكرة في أبعاد جديدة،" وكرّم بالتالي بأعلى درجة ممكنة ’عمل متفوق.‘ ولكن خلال أسبوعين، تغيرت لهجة سلطات الجامعة وتم إعلامه أنه لا يمكنه أن يأمل في فرصة ما بعد الدكتوراه التي وفرتها له درجة ’عمل متفوق.‘ وفقا للولينغ، فقد استثارت أفكاره غضب أستاذ العربية أنتون شپيتالر من ميونخ، وهو قائد مدرسة الفيلولوجيا النقية بين دارسي العربية الألمان. رفض سبيتالر التخلي عن المنهجية التقليدية في الحكم على القرآن بقواعد العربية الكلاسيكية، وخشي أن نتائج لولينغ سوف "تقلب بالتأكيد رأسا على عقب كل الأفكار الموجودة اليوم حول تاريخ أصل، نص، ومحتويات القرآن." كان تأثير شپيتالر كبيرا لدرجة أن في نهاية 1972 تم فصل لولينغ رسميا من جامعة إرلنغن. (3)

ولكن تطبيق هذا القرار أمكن تأجيله بمرافعات قانونية ضده، وهذا المسار هو ما اختاره لولينغ. وقد شجعه في هذه الحركة دعم خبير القرآن الفرنسي ريجي بلاشير. فبعد دراسة أطروحة لولينغ، كتب له بلاشير: "زميلي الموقر جدا. بهذا الطريق (أي، بطرق لولينغ) يستمر تقليد تلك المدرسة البحثية الألمانية التي ندين لها بتقدير وامتنان وافرين. آمل أنه بفضل جيلك ستستمر خصوصية فضولية ذات أهمية عالمية تجاه الدراسات الإسلامية، وحدها توفر فرصة لفهم عالمي للمشكلات." لسوء الحظ، توفي بلاشير بعد عدة شهور من كتابة هذه الرسالة، ولكن لولينغ استمر في الدفاع عن قضيته. ففي عام 1973 قدم كامل مجموعته من النصوص المسيحية التوشيحية المستردة، تحت عنوان ’حول النصوص الشعرية التوشيحية المسيحية القب-إسلامية في القرآن،‘ إلى قسم الفيلولوجيا في إرلنغن كأطروحة ما بعد الدكتوراه، الضرورية لاستمرار مسيرته الأكاديمية. وفي فبراير 1974، صوت ضدها أيضا أكثرية أعضاء القسم، وفقا للولينغ، بعد تسييس كبير من طرف جبهة "الفيلولوجيا النقية." نوقش هذا القرار في المحكمة، ولكن دون جدوى، وفصل لولينغ نهائيا من الجامعة في يوليو 1978. (4)

ولكنه عام 1974 قام بنشر أطروحته تحت عنوان ’حول القرآن البدئي،‘ التي لاقت قبولا حسنا لدى كثيرين خارج المؤسسة الأكاديمية في ألمانيا. وهذا هو العمل، الذي تم مراجعته وتوسيعه للنسخة الإنجليزية تحت عنوان ’حول النصوص الشعرية المسيحية القب-إسلامية في القرآن،‘ الذي يشكل أساس العرض والنقد الحالي لأفكار لولينغ. وبالإضافة، فقد نشر لولينغ أيضا عملا حول النبي محمد: ’إعادة اكتشاف النبي محمد،‘ الذي سيشار إليه أحيانا.



المصدر:


الهوامش:

(1) See G. Luling, "Preconditions for the Scholarly Criticism of the Koran and Islam, with some Autobiographical Remarks," Journal of Higher Criticism 3, No.1 (spring 1996): 81.
(2) Ibid., pp. 89-90.
(3) Ibid., p. 95.
(4) Ibid., pp. 96-99.

تعبير قمراني في القرآن -- مارك فيلونينكو

تعبير قمراني في القرآن

مارك فيلونينكو

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ..

السورة 85 (سورة البروج) كانت دوما محبطة للمترجمين والمفسرين. فالتفسير الكلي للنص يمليه في الواقع جواب السؤال: من هم "أصحاب الأخدود" الذين لعنهم النبي؟

اقترحت ثلاثة حلول رئيسة، سنلاحظها فيما يلي. الحل الأكثر اشتهارا يرى في السورة استنكارا لاضطهاد مسيحيي نجران على يد الملك اليهودي ذو نواس عام 523. كان الملك المضطهد قد حفر أخدودا ضخما وملأه بمادة محترقة. ولا بد أن عدد كبيرا من الشهداء قد ألقوا في الجمر.

باحثون آخرون، من جايجر ولوت وحتى بلاشير، إنما يرون في هذه السورة إشارة إلى حكاية الشباب الثلاثة في الفرن (دانيال 19:3-20).

يواجه هذان التفسيران بضع صعوبات نوّه بها ي. هوروفيتز. فاللعنات في الآيات 1 إلى 3 يصعب أن تطبق على أحداث ماضية، ولكنها، على العكس، تستلزم حسابا سيأتي. آخذا من جديد اقتراح هـ. غريم، يرى هوروفيتز في "أصحاب الأخدود" الأشرار الذين يرمون في نار الجحيم والذين، في يوم الحساب، سيكون عليهم أن يتحدثوا عن الجرائم التي ارتكبوها ضد المؤمنين. دعنا مع ذلك نشير إلى أنه يوجد مثال واحد فقط يمكن فيه لكلمة "أخدود" أن تشير إلى الجحيم في غمرة اللهب. والآية محل البحث هي من إسدراس (عزرا) الرابع (7، 36): "وستظهر حفة العذاب؛ وفي مواجهتها سيكون موضع الراحة؛ وسيُرى آتون جهنم، وبمواجهته سيكون فردوس اللذات".

هذه إذن هي حالة سؤال قامت المخطوطات المكتشفة قرب البحر الميت بإحيائه كليا. فالجحيم، شيول، يشار إليها دائما هناك بالكلمة العبرية "שַׁחַט شَحَط،" التي بالفعل تشير في العهد القديم إلى مستقر الأموات. ولهذا، فنحن نقرأ في "التعليم حول الروحين" (القاعدة 4، 11-13): "وأما المجيء بالنسبة لجميع الذين يسيرون في هذه الروح، فهو يشتمل على غزارة الضربات التي يدبرها جميع ملائكة الدمار، وعلى الهاوية الأبدية من خلال الغضب الثائر لرب الانتقام، وعلى الرعب الدائم والخجل الذي بلا حدود، كما وعلى الاستسلام للهلاك بنار المناطق المظلمة".

هذه القطعة مهمة لتفسير السورة. فالنص القمراني يصف، عمليا، عذابات الملعونين في العالم الآخر عند يوم الحساب: ففي "الأخدود الأبدي" سيحرقون "بنار المناطق المظلمة".

يصف كتاب الأناشيد تكرارا في بعض رؤى القيامة قوى الأخدود التي تنتشر خلال العالم في آخر الزمان. "ستفترس أرحام الأخدود كل أعمال الرعب"، "سهام الأخدود" تطير في السماء؛ "أبواب الأخدود ستغلق"، في حين "فتحت كل فخاخ الأخدود".

وهناك المزيد: فنصوص قمران تدعو الأشرار صراحة باسم "בְּנֵי הַשַּׁחַט (بِنَي هشَّحَط) أبناء الأخدود" وأفضل من ذلك "אַנְשֵׁי הַשַּׁחַט (أنِشَي هشَّحَط) أهل الأخدود"، بمعنى الملعونين، أولئك الموكلين للأخدود الأبدي. لهذا نقرأ في الدستور (9، 16) "ولا يوبخن رجال الشِرك (بمعنى الفخ)"؛ أو في 9، 22، "بغض أبدي تجاه أناس الشِرك بسبب روح الاكتناز لديهم!" أو أفضل من ذلك، في 10، 19-20:
أما فيما يخص تعدد رجال الشرك، فلن أقبض عليهم حتى يوم الانتقام؛ لكنني لن أقود غضبي بعيدا عن الرجال الضالين، ولن أرضى حتى يفتتح الحساب.
النص الأخير مهم بشكل خاص، لأن "رجال الشِرك" (أهل الجحيم) هنا هم بالفعل من سيطبق عليهم العقاب في يوم الحساب.

وهكذا فقد تأكد أصل الصيغة القرآنية "أصحاب الأخدود". فهو ترجمة بسيطة للتعبير القمراني (أنِشَي هشَّحَط). والمعنى العام للسورة بالتالي قد توثق. فهو مشهد الحساب الأخير. فالأشرار سيلقون في الهاوية التي أشعلتها الجحيم، حيث يحترقون على لهب خفيف، عقابا على الجرائم التي اقترفوها ضد الأتقياء.

والآية 10 تدعم تفسيرنا: "إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ". ومع أن عددا من الباحثين رصدوا هنا إضافة لاحقة، فهذا الإقحام لم يكن عشوائيا. إذ هو يظهر فهما صميما وموثوقا للسورة، حيث وفر، لو صح التعبير، أقدم وأهم تفسير.

إن توافر القرآن على تعبير قمراني بمثل تقانة "أصحاب الأخدود" يشير بأدق شكل ممكن إلى أن النبي كان على علم بأفكار وصياغات إسينية شائعة. وهذه دعوة مخلصة لتولي من جديد دراسة الإسخاتولوجيا القرآنية في ضوء نصوص قمران.


المصدر: